أمريكا والحوثيون أية علاقة؟
الخميس, 15 فبراير, 2024 - 10:00 مساءً
في منتصف ٢٠١٤ أجريت مقابلة صحفية وبحثية معًا، مع السفير الأمريكي بصنعاء حينها جيرالد فايرستاين، وبدأت بطرح مجموعة من الأسئلة كما هو معتاد في الحوارات الصحفية.
وحينما بدأتُ بأسئلتي البحثية التي كنتُ بصددها، وكان منها سؤال يتعلق بطبيعة العلاقة والموقف الأمريكي من الجماعات المسلحة في اليمن تحديدًا، وبخاصة الموقف الأمريكي الواضح والمُعلن من جماعة القاعدة، وهو عكس الموقف الأمريكي حينها من جماعة الحوثي التي ترفع شعارًا واضحًا بـ”الموت لأمريكا”، إذ سألته: لماذا لا نجد نفس الموقف الأمريكي الصلب تجاه القاعدة هو نفس الموقف الأمريكي مثلًا تجاه جماعة الحوثي، التي قد لا تختلف عن القاعدة كثيرًا في موقفها من أمريكا، بل تمتاز عن القاعدة برفعها شعارًا عدائيًا واضحًا تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وهو “الموت لأمريكا”، فضحك السفير وقال لي: ليس كل من يسب أمريكا يجب على أمريكا أن ترد عليه.
فقلتُ له: لكن أنتم لم تردوا على جماعة الحوثي بمجرد الرد، بل قمتم بمكافأتها بفرضها قسرًا ضمن أطراف الحوار الوطني، بلا قيد أو شرط، بل منحتموها مقاعد كثيرة ضمن هيئة الحوار الوطني اليمني، وهي لا تعترف حتى بهذا الحوار، ولا تعترف بالدولة اليمنية، ولا بالمبادرة الخليجية، ولا بكل أشكال العمل السياسي القائم، في دلالة واضحة على وجود تواطؤ مع ما تقوم به هذه الجماعة. فرد عليّ غاضبًا: لستَ أنتَ من يقرر للولايات المتحدة الأمريكية سياساتها، وماذا تفعل وما لا تفعل، وقرر فورًا إنهاء المقابلة حتى دون أن يعتذر عن إنهائها، وهو ما تقبلته بصدر رحب، وأغلقت جهاز التسجيل، وأخذتُ نفسي، وخرجت، مع محاولة مساعدي السفير تلطيف الجو، ولكن بالنسبة لي كانت الرسالة عندي قد وصلت، والهدف من المقابلة قد تحقق، فخرجت مسرعًا لتفريغ ما لدي من الحوار المسجل.
وفي مساء ذلك اليوم، اتصل بي المنسق الإعلامي من السفارة الأمريكية، هو حاليًا ضمن المخفيين لدى جماعة الحوثي، يعتذر بشدة، ويعتذر نيابة عن السفير والسفارة كلها، مقدمًا الاعتذار عما حدث من السفير، وأنه كان في لحظة ضغط ونهاية دوام، مما أثر على تركيزه وهدوئه، بتلك الطريقة.
المهم كان طلبهم ألا أشير من قريب أو بعيد لما حدث، ولهذا السؤال تحديدًا، قائلًا إن السفير موجود بجواره يمكنه أن يعتذر بنفسه، فقلت لا داعي لذلك، فأنا باحث بالأخير، وأبحث عن معلومة وموقف يؤكد لي معلومتي، وقد حصلت عليها بغض النظر عن قلة أدب السفير وانفعاله، فلا يهمني، لأنه يصب في سياق ما أبحث عنه وعن تأكيده، وقد قمت بنشر جزء من تلك المقابلة في صحيفة “الجمهورية” الرسمية حينها.
مرت الأيام سريعًا، وإذا بجماعة الحوثي على مشارف صنعاء، وقبل دخولها قامت الحكومة الأمريكية بإجلاء كل طاقم سفارتها ورعاياها من اليمن، وكان ثمة تنسيق واضح في تسهيل مغادرة الأمريكان الذين غادروا صنعاء بترتيب تام لحكامها الجدد الذين دخلوها على ظهر الأطقم، وبضوء أخضر واضح وصريح أمريكيًا، حيث لم يبذلوا أي جهد حتى في التعبير عن قلقهم من تطورات الأوضاع في اليمن، واكتفوا بموقف رمادي لا ضد ولا مع ما يجري في اليمن.
كان ثمة تنسيق واضح في تسهيل مغادرة الأمريكان الذين غادوا صنعاء بترتيب تام لحكامها الجدد الذين دخلوها على ظهر الأطقم، وبضوء أخضر واضح وصريح أمريكيًا، حيث لم يبذلوا أي جهد حتى في التعبير عن قلقهم من تطورات الأوضاع في اليمن، واكتفوا بموقف رمادي لا ضد ولا مع ما يجري في اليمن لجماعة الحوثي شعارها الواضح في ما يتعلق بالموقف من الأمريكان، ولكن هذا الشعار ظل شعارًا فحسب، كمان يقول أحد قياداتهم، وهو حسين العزي، حيث قال: “إن الشعار -أي شعار جماعته “الموت لأمريكا”- شعار سلمي وحضاري يندرج في إطار حرية التعبير، وكلمة الموت لا تعني الموت الإكلينيكي السريري، كما لا تعني الموت لأمريكا الشعب والإنسان، وإنما الموت لأمريكا السياسة التي تقف وراء معاناة شعبنا وأمتنا”.
ومثل هذا التفسير للشعار يتضح مدى برجماتيته وانتهازية أيضًا، بخاصة وأنه لم تسجل أية مواجهة مباشرة سقط جراءها حتى فرد أمريكي أو إسرائيلي.
أما اليوم، وفي ظل حالة الإحماء في جنوب البحر الأحمر، كتداعيات للحرب الإسرائيلية على غزة، وامتداد ارتداداتها إلى هناك من خلال قيام جماعة الحوثي بالاعتداء والتهديد للسفن الإسرائيلية المارة في مضيق باب المندب، والبحر الأحمر، وتطوراتها الأخيرة التي وصلت إلى إعلان أمريكا ما سمته تحالف حارس الازدهار، بل وصول الأمر مؤخرًا لقيام كل من الطيران الحربي الأمريكي والبريطاني وسُفنها، فجر الجمعة الموافق ١٢ يناير الجاري، بضربات خاطفة وسريعة ضدًا لما سمتها أهدافًا حوثية في مناطق سيطرتها، وكل هذا يطرح سؤالًا عن مدى جدية هذا الضربات الأمريكية وكذلك جدية جماعة الحوثي في موقفها من الحرب، في غزة، لمعرفة الأهداف غير المعلنة لهذين الطرفين مما يجري في جنوب البحر الأحمر واليمن عمومًا.
لا يخفى على أحد أن شعار الموت لأمريكا هو شعار لجماعة الحوثي منذ لحظة تأسيسها، لكن هذا الشعار ظل مجرد شعار لا قيمة له، وكانت تهدف منه الجماعة التحشيد والتجنيد لأتباعها وأنصارها، ودغدغة عواطف البسطاء من الناس خلف هذه الشعارات، وكان الأمريكان يتفهمون هذا الأمر جيدًا، والدليل أنها طوال سنوات الشعار لم يحصل أي صدام بينهما، بل كان ثمة تنسيق دقيق بين الطرفين منذ سقوط صنعاء ووصول جماعة الحوثي إلى البيضاء وبعض المناطق بعد إسقاطها للعاصمة صنعاء، وكان ثمة هدف واضح لذلك التمدد الحوثي الذي كان عنوانه القضاء على تنظيم القاعدة والدواعش، وكان ثمة تحليق مكثف للطيران الأمريكي في تلك المعارك لضرب ما كان يسميهم الحوثي الدواعش.
جماعة الحوثي في المنظور الأمريكي، لا تختلف عن المنظور الأمريكي لكل الجماعات الشيعية في العراق وسوريا ولبنان، باعتبارها النقيض الموضوعي للقاعدة وداعش، وبالتالي يمكن توظيفها والاستفادة منها في حروب أمريكا مع القاعدة وداعش اللتان هما جزء من لعبة أمريكية أيضًا،وفي السياق نفسه، أيضًا استمرت تلك العلاقة الرمادية بالتكشف رويدًا رويدًا مع وصول قوات الشرعية اليمنية في نهاية ٢٠١٨ إلى مشارف مدينة الحديدة، التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، حيث تزامن ذلك مع حوارات ما سميت جولة ستوكهولم للسلام، بين الحوثي والشرعية، والتي وقفت أمريكا بكل ثقلها لتوقيع تلك الاتفاقية، وأمرت بإيقاف الاقتتال وعدم اقتحام القوات الحكومية للمدينة حينها، بل هددت بضرب أي تقدم للقوات الحكومية.
بالعودة اليوم إلى عمليات فجر ١٢ يناير، والتي توقفت قبل أن تبدأ، وقبل ذلك تصنيف جماعة الحوثي كجماعة إرهابية من قبل حكومة ترامب الجمهورية في أواخر أيامها في البيت الأبيض، وإلغاء قرار التنصيف من قبل إدارة بايدن الديمقراطية في أول أيامها في البيت الأبيض أيضًا، كل هذا يعطينا لمحة عن طبيعة المنظور الأمريكي لجماعة الحوثي، وكذلك المنظور الحوثي عن أمريكا أيضًا.
فجماعة الحوثي في المنظور الأمريكي، لا تختلف عن المنظور الأمريكي لكل الجماعات الشيعية في العراق وسوريا ولبنان، باعتبارها النقيض الموضوعي للقاعدة وداعش، وبالتالي يمكن توظيفها والاستفادة منها في حروب أمريكا مع القاعدة وداعش اللتان هما جزء من لعبة أمريكية أيضًا، فرأينا كيف تم ضرب المقاومة السنية في العراق التي عُرفت بالصحوات، من خلال لعبة القاعدة وداعش، وبعد ذلك التحالف الأمريكي مع ما سُمي الحشد الشعبي العراقي الذي هدف هو الأخير لتصفية جيوب المقاومة العراقية تحت لافتة تصفية القاعدة وداعش، ونفس هذا المسار تم في جبهات أخرى في اليمن وسوريا، ولكن بطريقة وأساليب أخرى.
وبالمجمل، يمكن القول إن هدف الحوثي اليوم من عمليات جنوب البحر الأحمر، والتي يعلن الحوثي أن الهدف منها هو فك الحصار عن غزة المحاصرة، وإيقاف العدوان الإسرائيلي عليها، فهذا الهدف المعلن من قبل الجماعة لا يمكن تجاهله وإنكاره، ولكن ثمة هدفًا آخر جوهريًا يتستر خلفه هو الذي يعمل من أجله بكل قوة، وهو تسجيل حضور أمني وعسكري جنوب البحر الأحمر، ولفت انتباه العالم إلى أنه لا يمكن تجاهل وجوده، ومن ثم تجاهل فكرة الاعتراف بالجماعة كسلطة قائمة وقادرة على إرباك المشهد.
ختامًا، يمكننا القول إن الضربات الأمريكية البريطانية الأخيرة الخاطفة والقصيرة، أرادت من خلالها أمريكا توجيه رسالة للحوثي أنه يمكنه العمل وفقًا لقواعد اشتباك أمريكية لا إيرانية، ويجب على الجماعة أن تفهم هذا الأمر جيدًا، فيما الهدف الآخر، وهو في حسبان الحوثي والأمريكي معًا، وهو منح جماعة الحوثي حضورًا كبيرًا بهذه الضربات، التي لم تكن ضرورية، وكان يمكن الاكتفاء بفرض عقوبات اقتصادية وتجفيف مصادر تمويلها، لا الذهاب إلى القيام بضربات تمنحها حضورًا وتأييدًا شعبيين فوق ما تتمنى هذه الجماعة التي تريد من خلالها التأكيد على صدقية شعاراتها المرفوعة ضدًا لأمريكا وإسرائيل. ولا يهمها بعد ذلك أي شيء آخر، طالما وهي تبحث عن شرعية ثورية ومشروعية سياسية لضرب كل من يقف ضدًا لمشروعها، بتهمة الخيانة والتصهين والأمركة.