الهضبة الشمالية وجرائم الهادوية
السبت, 07 يوليو, 2018 - 07:16 مساءً
نزحف على الأيام في انتظار موعد لنهاية الحرب التي تتلكأ عن الموت، وقد منحت قبلة حياة عبر مفاوضات لا نعرف إلى ما ستؤول أو ماذا ستحقق!!..
لا نترك أنفسنا فريسة سهلة لهذا الانتظار.. لدينا الكثير من المعارك الجانبية التي تشغل فراغنا: من سلالية طبقية مقيتة، إلى مذهبية طائفية؛ نتقاسم بينهما التخوين الساخر، عبر مناطقية نُسَلم لها أنفسنا بكل بساطة!..
لم أرى أسى أعظم من الأسى الذي قاسته اليمن. برغم الوعي المتزايد لدى أفراد الشعب، إلا أن ميراث عيوبنا وتركتنا الثقيلة مازال مسيطراً على أكثر العقول وعياً، ويعاد بتكرار حي بكل جدارة..
قد تكون المعركة المناطقية من أكبر الخطايا التي تقف بيننا وبين استجابة دعواتنا لانتهاء الحرب..
المناطقية التي لم تكن معروفة قبل دخول مؤسس الفكر الهادوي لليمن وغرس جذوره فيها. لم تكن زيارة يحيى إبن محمد القاسم لليمن، عام 280 هجرية، هي الأولى. ستُفاجئ وأنت تقلب في صفحات تاريخه، بزيارة تسبقها بأربع سنوات، وقفت لها قبائل مناطق الشمال بالمرصاد، لدرجة إلقاء الحجارة والتنديد على موكبه بصوت واحد: "لا نريد العلوي يدخل بلدنا!!" ..
يتهم البعض مناطق شمال الشمال بأنها الحاضنة والمفرخة لهذا الفكر، دون أن يدركوا أن هذه المناطق هي أكثر من عانت من الفكر السلالي، ودفعت ضريبته أثمان مضاعفة منذ وطأت أقدام الرسي عليها..! وللأسف، مازالت هي المتضرر الأول حتى يومنا هذا، وهي تواري الآلاف من شبابها بين التراب الموجوع.
لم تكن حياة الرسي في اليمن هانئة، بعد أن دخلها يراوده حلم إسقاط الخلاقة العباسية، ليسقط عنه لباس الزهد والتقوى، وقد خالفت منهجه الكثير من القبائل، فاستخدم العنف المطلق بواسطة المهاجرين إليه من طبرستان، بالإضافة للعبه على المتناقضات والخلافات بين شيوخ القبائل ..
استبيحت دماء سكان المناطق الواقعة تحت سيطرته، والتي حاربت فكرة الهادوية عبر مجازر بشعة، انتهت بتهجيرهم، وهدم بيوتهم، وقلع زرعهم وأعنابهم، ودفن آبارهم. هذا بالطبع بعد أن ثبتت رؤوس مقاتليهم على أسطح المنازل، أو تعلقت أجسادهم من عراقيبها على أغصان الأشجار بمنتهى الوحشية..
كلما نظر الهادي للدماء الثائرة مسكوبة على الأرض، أزداد تفنناً بإقامة مذابح جديدة تتفوق عن سابقاتها..! وبرغم عنفه المطلق، إلا أنه لم يستطع دخول مدينة صنعاء حتى عام 286 هجرية، بمساعدة عاملها المدعو "أبو العتاهية"، وبعد استقدامه لمدد جديد لا يستهان به من طبرستان والحجاز ..
استمر الحال مضطربا بينه وبين قبائل الشمال، مد وجزر، استباح فيها كل الأعراف وقيم الدين الذي يتشدق بامتلاكه دون غيره، ليتوفي خائباً، وقد أحاطت به خطيئته في العام 298 هجرية، محاصرا في صعدة، وأصوات المعارك على أسوارها الطينية آخر ما وصل إلى أذنيه ..
توالى بعده حكم الأئمة، متوسعا، أو متقلصا، حتى حدود بؤرة نفوذهم التي لا يتنازلون عنها أبدا. فالتنازل يعني الفناء، وقد استنسخوا طريقة كبيرهم الذي علمهم الذبح والقتل بمجازر يندى لها جبين الإنسانية؛ كمذبحة جماعة المطرفية، التي أُبيدت عن بكرة أبيها دون أن يبقى لأصحابها ذكر أو أثر...!!
ورغم ذلك، استمرت الثورات المناهضة لهم بشجاعة، حتى خارت دفاعاتهم. لا أحد يستطيع محو تاريخ "بني الحارث"، و "بني يعفر"، و"آل طريف"، و"آل الضحاك" ضدهم؛ وكفاح "أبو محمد الحسن الأرحبي البكيلي الهمداني"، الذي وقف بسلاح العلم متصدياً لبطشهم، و"نشوان بن سعيد الحميري" صاحب البيت الشهير: مِنّا التبَّابعةُ اليمانون الأُلى * * * ملكوا البسيطة سَلْ بذلك تُخْبرِ
وغيرهم الكثير، ستجد في الكتب، التي دونها الإماميون عن أنفسهم، الأدلة الدامغة التي تدينهم وتجرم فكرهم ..
لم تسلم جميع مناطق اليمن من شر الفكر الهادوي، لكنها احتفظت في أغلب الأوقات بمذهبها، وكراهيتها لسيطرة الإمامة، وحريتها لفترات متفاوتة. على عكس مناطق شمال الشمال، التي حرمت- لأكثر من ألف عام- من لحظات شفاء؛ فترة نقاهة من الجاثوم الذي كُتب عليها، مغيرا تركيبتها السكانية؛ مذهبها وطريقة تكسب سكانها وعيشهم..!
نحن بحاجة للكثير من الإنصاف، قبل أن نجرد أسلحة السنتنا في صراعاتنا المناطقية. قد نتوقف قليلا، حين ندرك أننا نتحدث باللسان الذي أراد لنا به الهادي التحدث به؛ نحارب بعضنا بنفس النهج الذي رسمه لنا، دون أي انحرافات أو ميل!! ..