في الزمن الكهف
الخميس, 27 مايو, 2021 - 01:08 صباحاً
فقالوا: «إنّه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إلاّ أنْ تَدْعوا الله بصالح أعمالكم».
هذا حديث تذكرونه، رافعة أمل يمدها المصطفى صلى الله عليه وسلم في قصة موحية تضيء المثال وتنير ما استغلق من الدرب والمعنى في الزمن الكهف حيث شرع كل في صنع قَدرِه ومواجهة صخرته وتحمل مسئوليته كإنسان مستخلف.
الحديث مشبعٌ برمزية دالة مكتنزٍ بالكثير من المعاني العميقة، يرد عادة في باب الإخلاص وهنا يكمن مفتاحٌ أوليٌ للدخول إلى أسراره الخبيئة.
كلما ألقت بي العتمة في مهاوي اليأس عدتُ إليه فينبت لي جناحان من ضوء، أستدعيه كلما ابتلعني الكهف أو ابتلعتُه وكلما افترشت قلبي الصخرة: صخرة الذنب والعجز والضعف والوهن ، أستدعيه وحي خلاص، ملاكاً حارساً، رفيقاً منقذاً يسبق آهة الفقدان.
يا رسول الله ها أنا ذا في كهف أيامي أنوء بصخر آثامي وكلما أوشكت الظلمة أن تبتلع فيّ أنوار اليقين مددت إليّ أسراب الضياء، كلما أغلق اليأس عليّ منافذ الرجاء وأخذتني الوحشة من دنيا الناس وتملكني الشعور بالنبذ والانقطاع ترقرق حديثك المصفى في القلب وانبعث النور وتكشفت دوني الحجب.
لكأنك تقول: الكهف أنت، الصخرة صُنعك ونجاتك فيك ومنك.
كلما استحالت حياتك كهفاً بالغ الضيق كلما ضاقت وضقت بهاوسدت دونك الأفاق فاحفر داخلك بحثاً عما ينجيك، قلّب ماضيك صفحة صفحة، لحظة لحظة بحثاً عن الأحب والأجمل والأنبل، عن صالح عملٍ مرتفعٍ ونبيل لترتفع الصخرة.
أعود إليّ في لحظة التسامي والإشراق لا من أجل الافتتان والغرق في زهو الانجاز، لا من أجل ذات النشوة المستعادة، لا من أجل مطامنة الروح المهددة بهلاك وشيك، لا من أجل السلوان والاكتفاء بما كان، لا من أجل مخاتلة اليأس.
أعود إلى لحظة الإشراق البعيدة في مواجهة إعتام اللحظة القريبة أملاً في النفاذ إلى الشروق التام، إلى حياة النور «..نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم..» إنها رحلة الروح سفر متصل الإشراق من "..شروق البدايات إلى شروق النهايات.." بحسب بن عطاء السكندري.
تعود بي يا رسول الله من أجل الخلاص إلى لحظات الإخلاص لكأنك تقول إخلاصك خلاصك.
ما ينجيك وأنت في مواجهة الأخطار وحيداً أعزلاً بعيداً عن دنيا الناس في الحياة الكهف بل ما ينجيك وأنت قريبٌ إلى ما تظن من أسباب الوجود ليبس إلا أحب الأعمال وصالحها لديك، ما كان خالصاً لله وما كنت فيه الإنسان الخالص.
هذا رصيدك الحقيقي وكل ما يمكن أن تستصحبه معك ليرفع عنك الصخرة، ليرفعك إلى الله، ليطلقك من الكهف، ليعيدك للحياة أكثر إيماناً ونبلاً بل وليضمن لك الحياة في ما هو أبعد من الكهف، أبعد من الدنيا «في جنة عرضها السماوات والأرض..» حيث الأبدية والنجاة في النعيم الخالد.
في لحظات الارتطام مع كل ما يمكن أن يكلفك حياتك لا تعول إلا على إخلاصك، رصيدك حيث لا تنفع الأرصدة.
العمل المضيء يبدد العتمة، عتمة الروح والحياة والارتفاع في العمل يرفع كل الصخور.
استعادتك الاحب حيث تتجمع بواعث النقمة والكره لحظات انخطاف واستنارة، لحظات كشف تحملك سفينة نجاة تخلصك من قبضة الثقل والجهامة، من كهفية اللحظة وتصحرها.
نجاتك الآن مرتبطة بنجاتك من لحظة الضعف وإفلاتك الآن مرتبط بلحظة انفلاتك من قبضة الشيطان، بلحظة كمالك وإنسانيتك تستعيد الحياة، بذكرك الله لحظة انتباهك وتذكرك مضافاً إليه فعل التذكر الآن واستعادة جماليات اللحظة، سبيلك إلى مغادرة الكهف.
انطلاقك من أسار أنانيتك ورغباتك الدنيئة سببٌ في انفراج الكرب وانفساح الدرب، عصيانك نفسك وأهواءك وإعراضك عن نداءات الغريزة فيك يخضع الصخر الأصم ويدرأ عنك الهلكة.
حين تتحرك الروح بمراد الله يتحرك من أجلها كل شيء "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه".
الإخلاص لحظة فارقة محررة والعمل الخالص فعلٌ تحريريٌ يبدأ لحظة الفعل بالتحرر من نوازع الضعف والارتكاس وينتهي محرِراً للإنسان من عذاب الأبد.
الله لا يبخسنا ولا يقبل بالبخس «.. ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين..» وأن تصل مراعاة الناس حد تثمين الشيء فما بالكم بتقدير الروح ومراعاة المشاعر والقيم.
الله لا يبخسنا الأعمال مهما صغرت وبدت حقيرة «..فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره..» يضاعف الحسنات دون السيئات، يغرينا بالكسب والإقبال عليه، يحب منا ما نحب «والعمل الصالح يرفعه...» يلهب أشواقنا وصباباتنا لتلك اللحظات الحساسة العالية حيث نكون معه " بلا علاقة ولا هم " يحب منك كل لحظة كنت فيها أنت مسكوباً بكلك في عملٍ خالصٍ، موقفٍ متسامٍ، فكرة شفيفة خاشعة، متبتلة، دمعة حب ووجد تطفر من عين القلب.
الله يحب منك كل لحظة فارقة تأبدت فيك وفي اللوح المحفوظ بكل ما داخَلَها وأحاطها من مشاعر وأحاسيس وأفكار، كل لحظة "..لم تجعله فيها أهون الناظرين إليك.."، كل لحظة فريدة النكهة والمذاق لها طعم الصلاة ورائحة الجنان حلاوتها في القلب تبدد مرارة الأحزان وتمنح الوجود لذته ومعناه وهنا يمتد ظل الرحمة ويلوح حديث "السبعة" كتأكيدٍ على تلك اللحظات.
الله يحفزنا على تقصد الأسمى والأعلى كخيارٍ يبدأ حسمه داخل الروح في لحظة علو يكتبها عنده نية مجردة مثيباً عليها قبل التحقق.
من هذا الذي يبخس الناس مواقفهم في الوطن الكهف؟ من هذا الذي يغلق دونهم أبواب النجاة ويسد أبواب الأمل بصخور كثار قدّت من تقصير وعتب وإحساسٍ بالهزيمة ومحبِطاتٍ أخر؟.
يا رجل الكهف استدع الأحب كلما أطبقت عليك لحظة الخسران، انظر كم رفعت من الصخرة دونك؟ عد إليك في لحظات اندفاعتك نحو الفكاك، واقفاً على رأس وطنٍ يوشك أن يسقط من ظمأ وجوع، مدافعاً عن المغتَصَب من الحرية والحق والكرامة.
عد إليك لتبني على ما أسست، عد إلى الأحب إلى الخالص من الرؤية والموقف فعسى إخلاصك ينجيك ويريك كم أنت قريبٌ من النور.