صحفي متخصص في القانون، رئيس مركز البلاد للدراسات و الإعلام
لا تنسى "اللواء" يا أبي!
الجمعة, 01 أكتوبر, 2021 - 12:01 صباحاً
قبل أن أخرج من بيتي لحقت بي شذى وأعادت الطلب أكثر من ثلاث مرات:" انتبه تنسى العَلَم، انتبه تنسى العَلَم، انتبه تنسى العَلَم" ابتسمت وأنا أعيد التعهد والالتزام بتنفيذ طلبها، و مع كل تأكيد منها أهزّ رأسي محاولا اقناعها بأنني سأفعل!
وقبل أن أعود اتصلت لأسألهم في البيت هل تحتاجون من شيء، فكانت شذى ترد بصوت حازم وجاد: "لا تنسى العلم يا أبي، لن تدخل البيت إلا بالعلم"!.
حين نخرج من بيوتنا نرفع أعناقنا إلى السماء، ذلك أننا نقف تحت ظل أطول سارية للعلم الوطني رفعه محافظ مأرب الشيخ سلطان العرادة قبل أشهر، نسمع خفقاته على نغم صوت أيوب وهو يردد:
نعم ما انجبت لنا بنـت كـربٍ
توأمـان: ايلولـنـا والـلـواءُ
نحن هنا نعيش أقدس اللحظات وأعظمها احتفاءا ومجدا وفخرا وتضحية، تمتزج مشاعرنا بخفقات العلم، وأزيز الرصاص دفاعا عنه، وزئير الأسود في كل جبهة ومترس يذودون عن حياض وطننا ويقدمون دماءهم الزكية بسخاء زكاة منهم وتضحية وجهاد:
وزكـاة المجاهديـن الدمـاءُ كما قال الثائر الكبير علي بن علي صبرة في ملحمته الخالدة: عاد أيلول كالصباح.
استمعت لهذه التراتيل الوطنية مرات عديدة، غير أن لها وقع هذه الأيام لا مثيل له، اتصل بي أحد الأبطال الجمهوريين من ذمار ليلة إيقاد الشعلة وهو يقسم أن دموعه ومن حوله ذرفت أثناء ترديد النشيد الوطني والوقوف بثبات وحزم وشموخ أمام العلم الخفاق.
قال: أقسم بالله أننا شعرنا بعافية تسري في أجسادنا تلك اللحظة، كان منتشيا للغاية، الليلة سمعت أيوب يفسر لي سر تهديد ابنتي لي بعدم دخولي البيت إلا بالعلم، وما وراء العافية التي كانت تسري في أجساد أبطال الجمهورية لحظة إيقاد الشعلة، ترنم أيوب عن أيلول مؤكدا ذلك:
عاد ايلـول كالصبـاح جديـدا
سحقت في طريقـه الظلمـاء
يبعث الروح في الوجود ويسري
في دمانا كمـا يـدب الشفـاءُ
العلم يسري في دمانا نعم والله، يدب في ذواتنا كما يدب الشفاء، العلم وأيلول أنجع وأصدق وصفة دواء لأجساد اليمنيين في هذه الأيام السقيمة، وقفت طفلة في عمر الزهور عصر السادس والعشرين من سبتمبر أمام الزميل المصور نبيل الاوزري ، ملامحها مسكونة بالإعياء، وفي وريدها لاصق فراشة الدواء، حثت نبيل بسرعة التقاط الصورة لها وهي تحمل العلم، وبررت ذلك بأنها خرجت من أجل هذه الصورة، ولم تكن لتخرج من البيت في شدة المرض إلا لأن والدها شهيد، دفنته ملفوفا بالعلم الذي سيبقى، خافقاً كالفؤاد وسـط الحنايـا .. كيف تجري بدون قلـب دمـاءُ!
لم تفارق مسامعي كلمات صوتها المتهدج، ولا تمسكها بمجد أبيها، ولا يقينها بأن العلم سينتصر على شعار العملاء عبيد ايران، ولا إيمانها بأن أيلول والعلم قد دب في دمانا وطنية وشفاء، لم أكن لأعود إلى البيت هذه الليلة دون العلم، لأنني أدرك جيدا أن المشاعر طافحة بحب العلم والنشيد، لا مكان معها لنكث الوعود.
ولقد عدت بالعلم، اوفيت بوعدي لصغيرتي، ستستيقظ بعد قليل لترتدي الزي المدرسي وحقيبتها وتحمل العلم، ككل زميلاتها.
لم يخذلني زميلي القدير حسن الفقيه هذه الليلة، انقذني في وقت حرج، اخذت العلم الذي كان بحوزته، وتشبثت به وقبلته، عطرته رغم أنه يفوح برائحة دماء الشهداء الأنقياء، وضعته لتتزين به شذى في ساحة المدرسة في حفلها هذا الصباح.
ذاكرتنا مليئة بالأحداث التي تلخص المعركة، معركة الراية واللواء، واليمنيون كلهم أقسموا على أن تبقى الراية خفاقة، وعلى أن يغسلوا عار الصرخة الخمينية بالنشيد الوطني، ويدوسوا على شعار ايران تحت سارية العلم الوطني، وسيرضعون الكبرياء من نزيف الجراح، وستخر الاجيال تحـت سواريـهِ فـداءٌ لـهُ ونـعـم الـفـداءُ.
سننظر كل يوم إلى اللواء ونخاطبه بشموخ وإباء يشبهه، نخاطبه في المدارس والبيوت والجبهات والمساجد والاسواق وفي كل الميادين، سنردد بكل يقين وعزم وعزة:
ايهـا الخافـق الـذي تتفـيـا
ظلـه الصافنـات والهيـجـاءُ
يستريح المناضلـون وتستـن
المواضي ويحصـر الشهـداءُ
وهو يتلو على النجـوم بيانـاً
صاغه ليلة الخميس القضـاءُ
قسماً لن ينـال منـك دخيـل
او يبيـع المكاسـب العمـلاءُ
قسماً لن ينـال منـك دخيـل
او يبيـع المكاسـب العمـلاءُ
قسماً لن ينـال منـك دخيـل
او يبيـع المكاسـب العمـلاءُ