إلى تميم..!
الثلاثاء, 04 يناير, 2022 - 09:36 مساءً
إلى الشاعر الفلسطيني المقاوم الذي سُمِعَ صوتهُ في الآفاق بشعِرهِ المعجون بالأنفة، والمُستحضِر لعصور المجد، الجائلِ في أزقةِ الشام، وقصور بغداد، وحواضر الإسلام جمعاء، فلم يغفل الرقة، ولم ينسَ سمر قند، ولم يكن متجاهلا للعباسيين ولا غيّب الأمويين فيما يكتب ويقول، وكذا الأكراد والسلاجقة والأيوبيين والفاطميين، والمماليك، فكتب بلسان المستظهر بالله، ورثى صلاح الدين، وعرج على الملك شاه، وأثنى على الظاهر بيبرس.
تميم البرغوثي المنحدر من أقدس بقاع الشام، والمتشربِ لجميع أمجاد المسلمين وهزائمهم، وكأنه الحاضر المشارك في مجرياتها، واللائذُ من تبعات انكساراتها، الغانم من فتحوها، والمستنصِرُ بقومٍ لرفعة قوم، فتسمعه يستنجد بيوسف ابن تاشفين لإنقاذ الأندلس بعد ما أعياه ابن عباد وهو يستحثه لجمع كلمة أمراء الطوائف ضد ما تُسمى بحروب الاسترداد الصليبية التي يقودها الملك ألفونسو.
تميم شاعر بخلفية سياسية وتاريخية ثرية، فهو المتخصص بعلم السياسة في حياته المهنية، والقارئ في مختلف المجالات من بينها الفقه والسيّر، والمُلِم بجانب كبير من الفكر السياسي الإسلامي بفروعه المتنوعة، وهو فلسطيني الأب، مصري الأم، جمع الشرف من طرفيهِ فتخلّقت فيه شخصية عروبية مسلمة متأثرة بعظمة التاريخ العربي الإسلامي وغائرةٌ في أعماقه.
هذه الرسالة من كاتبٍ حميري قحطاني، إلى تميم الذي قد يكون قحطانياً أيضاً إذ إن أغلب القبائل العربية التي تسكن الشام هي قحطانيةُ الأصل، والرسالةُ إلى تميم، والمعنيون بها عربٌ كُثُر.
نقرأ في شعر البرغوثي الكثير من الإعجاب بالتاريخ العربي والإسلامي الزاخر والأثير، فهو يمتدحه شكلاً ومضمونا، وبما أن كثير من هذه الحضارات شدت انتباه شاعرنا فلماذا نرى كلماته تتجول في دمشق ولا تعرج على صنعاء، وتقيم في الكوفة ولا تلتفت إلى زبيد، وتزور بغداد حاضرة العباسيين ولا تفعل ذلك في تعز عاصمة الرسوليين.
لا أقول أن ذلك عن قصد، وهبّ أنك تسألهُ عن اليمن فلا أشك أنك سوف تستمع إلى الكثير من القول الذي لا ينبئك به مثل خبير، فأجدى أن تسمع عن "سبأ" من لسان العارفين ما لن تسمعه بلسان غيرهم والسؤال هنا، على تاريخها الطويل والغني بالأحداث، أحداث الممالك القديمة وإنسانها الذي اعتاد على بسط نفوذه في شتى بقاع الأرض حاملاً معه رسالة العرب، عرب الجزيرة الذي ملكوا حواضر الدنيا بفضل سواعده وجيوشه وغريزة التفوق المتأصلة في نفوسهم، لماذا تغيب اليمن من الشعر، والفن، والأدب، والدراما المتحدثة عن تاريخ العرب والمتغنية بأمجادهم،
في اليمن تاريخ يستحق أن يُلتفت إليه وأن يشد انتباه كاتب يشبه شخصية البرغوثي الغائرة في تاريخ الممالك والإمبراطوريات، فأنت تتحدث عن ممالك الإنسان الأول، في أرض سام بن نوح، أزال، وفي معين وحمير وقتبان وريدان، والجند، بل وتهامة الشعر والوجدان، عن بلقيس ملكة سبأ، وعن الأقوام البائدة، كهود وثمود على سبيل المثال لا الحصر.
شاهدت مسلسلات تاريخية ابتداء من مسلسل عمر بن الخطاب، إلى مسلسل الحسن والحسين الذي سُلِط فيه الضوء على الفتنة القادمة من اليمن وزعيمها عبدالله بن سبأ، وشاهدت صقر قريش عبدالرحمن الداخل وهو يستعرض الدولة الأموية من عهد هشام بن عبدالملك إلى قيام العباسية على إثرها من ثم تجديد ملك الأمويين بالمغرب بعد فناءه بالمشرق وهو الآخر يتطرق إلى النزاع بين القيسية واليمنية ويتناول الجانب السلبي منها، إلى مسلسل أبو جعفر المنصور ومنذ قيام دعوة العباسيين إلى تقلدهم أمر خلافة المسلمين متنقلين بين العراق والشام ومصر والأراضي المقدسة بالحجاز وكأن اليمن ليست احدى الأمصار المرتبطة بهذا الحراك والمتأثرة بمجرياته، وكذلك في هارون الرشيد، وملوك الطوائف وربيع قرطبة والمرابطون والأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، ناهيك عن أحداث مسلسل الزير سالم الذي شوّهت صورة ممالك كنده وحمير وصورتهم كملوك الفرس والروم بمواجهة قبائل عربية كالبكريين والتغلبيين الذين قدمهم المسلسل كأسياد العرب وكأن ممالك اليمن ليست من بطون أعز العرب وأصولها في مغالطة تاريخية غير مستساغه.
قد لا يكذب رواة التاريخ ولكنهم يتحيزون، وربما أن غياب اليمن في ذهنية العربي اليوم، هو نتاج محاولات تغييبها بالأمس، وإنني أسعى هنا لمكاشفة إخواننا العرب عبر رسالتي إلى شاعرنا البرغوثي كأحد أهم الأصوات العربية، المكاشفة بشأن اعتقادنا بوجود فعل غير بريء أسهم في تحييد اليمن كحلقة مهمة من حلقات التاريخ العربي قبل بعثة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، والإسلامي بعد بعثته.
نظراً للمكانة الكبيرة لليمن في تاريخ الجزيرة العربية نرى أن العائلة الهاشمية هي أبرز طرف سعى في تغييب اليمن كحاضرة عربية إسلامية، وذلك من خلال تشكل الواقع الجديد بعد الإسلام، والذي منحهم امتياز لا يمكن أن ينافسهم فيه أحد، لا سيما بعد هزيمة أكبر ممالك الأرض على أيدي المسلمين، الذين نسب شعراؤهم وعامتهم وخاصتهم فضل هذا التفوق لبيت النبوة.
فلماذا اليمن بالتحديد على الرغم من سيطرة المسلمين على ممالك أكبر منها؟ لأن تلك الامبراطوريات بعيدة وغير عربية، أما اليمن فهي عمق عربي مهم، وقريب من مصدر الرسالة ولا ينافس اعتزاز قريش بنسبها العربي سوى اعتزاز اليمنيين أنهم الأصل والمنبع، بالإضافة إلى حضور القبيلة اليمنية الطاغي على كل حضور، وهذا بالتأكيد ليس في صالح العائلة الهاشمية التي وجدت في الاسلام عنصر تفوق يمكّنها من التمايز به على غيرها بحكم قرابة النبي الأعظم محمد.
وهذا ما يؤكده وقوع اليمن في قبضة الحكم الهاشمي منذ مطلع القرن الثالث الهجري واستمرار النظام الإمامي فيه حتى ستينيات القرن الماضي وعزلها تماماً عن محيطها فضلاً عن الإمعان في إغراقها بالجهل والفقر والتخلف والصراعات القبلية.
ورغم هذا فإنها تأثرت وأثرت في كل منعطفات التاريخ الإسلامي وبشكل فاعل وثّقته التضحيات والبطولات والمآثر، وغيبته المؤامرات والدسائس حتى بات منسياً في الوعي الجمعي لإخواننا العرب على طول أجيال متعاقبة.
فمتى تتجول حروف تميم البرغوثي في صنعاء وتعز والبيضاء ولحج وعدن ومأرب، ليتدارك ما فاته من تاريخ السبأيين والحميريين، والكنديين، ويقف على أطلال الدولة الرسولية والطاهرية واليعفرية وغيرها؟.