كاتب وسياسي يمني
حضرموت البعد الثالث: صنعاء بلد لنوار.. أعطتني انواري
الأحد, 07 يونيو, 2020 - 08:32 مساءً
لم تكن هجرة الحضارم الاخيرة – ثمانينات القرن الماضي– اول اتصال لهم بصنعاء. ودون الخوض في تاريخ اليمن القديم، يمكن التذكير بأن الإمام طالب الحق الكندي خطب بجامع صنعاء الكبير سنة 129هـ خطبته المشهورة –إبان الثورة على ولاة الخلافة في دمشق- وكانت ثورة إصلاح سياسي. استقطب طالب الحق بذلك الخطاب –المفعم بقيم الحرية والعدل والمساواة- من اليمنيين من استطاع بهم طرد ولاة الأمويين من حضرموت وصنعاء وصولا لمكة والمدينة.
وفي تاريخ لاحق استمر تواصل علمي وتخاطر أفكار تشاركية، وعلاقات خشنة أحيانا، تذكيها خلافات داخلية هنا أو أطماع توسعية هناك.. فنشوان بن سعيد الحميري عندما ضاقت به صنعاء، كما ضاقت بكل معارض سياسي لحكامها يومذاك، القرن الخامس الهجري، ارتحل لتريم ال راشد وأنشد وهو يغادرها قافلا لصنعاء:
رعى الله إخواني الذين عهدتهم
ببطن تريم كالنجوم الزواهرِ
أنست بهم من سالف الدهر برهة
فكانت لياليهم كأحلام نائم ……
واستنجد العمودي بجيش الإمامة الزيدية لحسم صراع السلطة في دوعن. كما استقدم سلاطين ال كثير (الهمدانيين) مفرزات يافعية (حميرية) لتعزيز دفاعاتهم غرب الوادي وفي ساحل الشحر وظفار. واتصلوا في فترات لاحقة بحكام صنعاء العثمانيين لمواجهة موجات الغزو الأوروبي، كما أسلفنا في الحلقة الاولى من هذه السلسلة.
وفي الجغرافيا الطبيعية والسكانية لا تكاد تجد حواجز أو فروقا اجتماعية كبيرة على امتداد صحراء الربع الخالي شمالا، فالتداخل في العرف والعادات الاجتماعية بين وادي حضرموت والصحراء عبر مارب والجوف موحدا أكثر منه مع باقي نواحي غرب حضرموت مثلا، وحكام نهد الحضرميون هم مرجع العرف والقانون القبلي في كل هذه الجهات شمال غرب الوادي العظيم.
وإلى شبام عاصمة حضرموت التجارية، تأتي (فلوك اليمن شاحنة من كل غالي بن يافعي وزبيب حالي).. ورغم بعد المسافات وبدائية وسائل المواصلات بقي الاتصال الشعوري في وجدان الناس هنا وهناك وكانت لمفتي حضرموت بن عبيد الله السقاف اتصالات بصنعاء قبل خروج العثمانيين وبعدهم، مع الإمام يحيى..
الزعيم عبدالله السلال كان ضمن أول بعثة علمية تسافر للعراق بمساعدة من التاجر الحضرمي (صالح الحبشي) الذي سكن صنعاء وتأثر بفكر القومية في خمسينيات القرن الماضي، وجاءت ثورة (السلال) كما عرفها الحضارم من مذياع صوت العرب من القاهرة قبل إذاعة صنعاء وعدن. وسموا مواليدهم باسم جمال كما لقّب آخرون بالسلال.
وفي عنفوان المد الثوري العربي سمى الحضارم بناتهم (صنعاء وعدن وفلسطين وتونس ومسقط) وفي المدن والحواضر، خرجت الجماهير مؤيدة للسلال وثورة 26 سبتمبر 1962. وحتى الحكومات المحلية في سلطنات حضرموت لم تر في إظهار هذه المشاعر الوطنية إلا تعبيرا عن وحدة وجدانية وروح جديدة تسري في جسد الأمة لا يستطيع أحد كبتها وإيقافها أو مواجهتها.
وفي ظل وجود صحافة وطنية حرة بالمكلا، أخذت صحف الطليعة والرائد والرأي العام، تبشر بالعهد الجمهوري الجديد وقرب التحرر من قيود الاستعمار البريطاني في عدن والمحميات. أما الحركة الوطنية اليمنية المنظمة في عدن وأذرعها السرية وفروعها العلنية في حضرموت، فقد وجدت في صنعاء متنفساً وسنداً، فأضحى الزعيم قحطان الشعبي مساعدا للرئيس السلال، وتسلل مندوبو مؤتمرات حركة القوميين العرب من حضرموت وسائر مدن الجنوب إلى جبلة وتعز وقعطبة، حيث يعقدون مؤتمراتهم الحزبية ويتلقون التدريب والسلاح من القوات العربية هناك.
ولما كان الحضارم هم اكثر المجموعات المتضررة من قوانين التأميم بعدن بعد الاستقلال وكساح النشاط الاقتصادي في الجنوب عامة، فقد استأنف معظمهم نشاطهم التجاري في دولة الشمال، وشكلوا -بخبرتهم وسمعتهم في الاوساط التجارية الاقليمية والدولية- إضافة نوعية وقيمة مضافة لعجلة الاقتصاد الناشئ في الشمال الرأسمالي استعادوا فتح الوكالات التجارية العالمية واستقدموا كوادر مصرفية ومالية حضرمية متمرسة.
وفي ظل انفتاح نظام صنعاء على النشاط الاقتصادي الحر، أصبح الشمال بيئة جاذبة للاستثمار، وحول الحضارم نشاطهم من ميناء عدن لميناء الحديدة، فكان بازرعة وباشنفر وباعبيد وشماخ وباعبود وغيرهم أسماء كبيرة في مجال الصناعة وتجارة الاستيراد والتصدير، وفتحت البنوك العالمية فروعها في تعز والحديدة بخبرات حضرمية أمثال (بامطرف وباكحيل وباذيب وغيرهم).
وفي مجال العلوم استقطبت جامعة صنعاء مؤسسي وعمداء أهم كلياتها واقسامها العلمية أمثال (باعباد وبابقي وبازرعة وبامشموس وبافضل). وتولى بعضهم المناصب العليا في الدولة.. (يتبع).
*نقلا عن صفحة الكاتب في فيس بوك