سيعود شقيقي توفيق لكنه لن يجد أبي
الجمعة, 26 يونيو, 2020 - 11:18 مساءً
غريبة هي "فلسفة الموت" وموجعة الصدمة التي يودعها لنا بعد أن يأخذ أحبابنا، دونما اكتراث بعمره، طفلاً أم كهلاً أو حتى شاباً، ولا مراعاة لصحة الكهل المتعبة وصحة الشاب الممتازة.
هكذا هو الموت لا يأبه لشيء، يتفنن في إختيار الطريقة التي يختارها نيابة عنا لنترك كل شيء، عائدين إلى مصيرنا المحتوم مدفوعين بإرادة الحياة كما يسميها "شوبنهور" أو بالقوة الحيوية كما يسميها "برجسون"، وعلينا أن نسير في هذا الطريق حتى ننال ما قُدر لنا أن نناله، فمصير الإنسان أن يجتاز الحياة وينتظر الموت، ذلك أنه يدخل إلى الدنيا مجبراً كارهاً، ويخرج منها مجبراً كارهاً، لا أنوي هنا تقديم دراسة بحثية عن "فلسفة الموت"، ولكنه الوجع الثقيل الذي خلفه موت والدي، وغصة رحيله التي لا تفارقني منذ أيام.
لقد رحل أبي، القائد والمربي القوي صاحب القلب الكبير، نور حياتنا وضياؤها، عاش مكافحاً ومناضلاً، واجه مصاعب الحياة بصبر وجلد من لا تلين عزيمته ولا يكل زنده.ف
منذ أن عرفت الحياة لا أتذكر أنه استسلم لأي مرض أو جائحة وبائية، كان يقاوم كل الآلام والأوجاع بقوة الايمان وشدة الجلد، وشكيمة الفلاح النبيل الذي لا يُظهر الضعف ولا يستسلم بسهولة لتقلبات الطبيعة وأوبئتها المفزعة.
في استرجاعي لذكريات حياة والدي الحبيب تتكرر أمامي ثلاث صور بشكل لا أستطيع معه تمالك نفسي من الحزن والوجع، ابتسامته وبشاشته لأحفاده، مشمّراً ساعديه وهو حامل فأسه يجول ويصول بين الزرع و"السّبول"، والأخيرة وهي الأكثر تكراراً وهو منكباً يقرأ كتاباً من رفّ مكتبته البسيطة التي أثّث كتبها الدينية والتاريخية والثقافية المتواضعة من غربة شبابه في السعودية.
وعلى الرغم أن والدي رحمة الله عليه، تلقى تعليمه في "المعلامة" بالقرية، ولم تتهيأ له الظروف والفرص لمواصلة التعليم كغيره من أقرانه في ذلك الفترة، إلا أنه مهتماً وشغوفا بالقراءة وتتبع أحداث التاريخ وقصص الغابرين، ولا هدية في نظره تساوي كتاباً قيماً، وفي زياراتي معه لمكتبة تريم العام الماضي قال "ليت لي القدرة على البقاء هنا واقراء كل ما بداخل هذه الكتب".
مع تصاعد وتيرة انتشار فيروس كورونا والحجر الصحي الذي امتد لإيقاف الصلاة في المساجد، بما فيها صلاة العيد، وقف والدي إماماً لصلاة العيد في البيت، وأردت أن أكافئه بطريقتي الخاصة وبالتشاور مع اشقائي، وأخذت رأسه وأقبله واتجهت لتقبيل ركبتيه وقدميه مستجمعاً كل شجاعتي وبرّي، ولكنه ككل مرة يسحبني ويوقفني صارخاً بأعلى صوته "والله هذا لا يجوز والإنسان لا يحني رأسه إلا لخالقه" موجها الكلام لي ولبقية افراد الاسرة، سارداً علينا محاضرة طويلة في الشموخ والكرامة والانحناء لله فقط، وأن الطاعة للوالدين وبرّهما لا تحتاج إلى طقوس غير معروفة مصدرها، لقد كان معلمنا الأول ومرجعيتنا في كل شيء.
كرس حياته لأجلنا حتى نسي نفسه تماماً، في منتصف عام 2015م، اختطفت ميليشيات عبدالملك الحوثي شقيقي توفيق، صديق أبي وابنه البار الذي يشبهه في كل شيء، فخفت على والدتي وانصبت مواساتي لها، بينما انصبت مواساة أبي نحوي وكل أفراد الأسرة، كان يرمي لنا شباك الأمل والتفاؤل إيذاناً بانتهاء المشروع الإمامي السلالي وعودة توفيق وزملائه رافعي الرؤوس.
رأيت أبي بقوة وعزيمة وصبر يفوق ما أنا به من الثبات المزعوم أمامه، كان يرى الضعف والقلق في عيني، يحاول أن يواسيني ويقوي من إرادتي ويزرع الأمل في نفسي، كل هذه العظمة من القوة والثبات وهو يرى قطعة من روحه في أيدي أسوأ المجرمين والقتلة، يسمع أخبار التعذيب والتنكيل بفلذة كبده منذ اليوم الأول لاختطافه، وفي أول زيارة استطاع أبي رؤية آثار التعذيب واضحة على جسد شقيقي توفيق في "سجن الثورة بنقم" حينها، ولم ندرك حجم الغصة والألم الذي خنق والدي بسبب ما رآه إلا عندما كادت عيناه أن تنتهي بفعل جلطة ألفيناها بعد مدة قصيرة من الحادثة.
حيث عاد أبي إلى القرية البعيدة عن توفيق والقريبة من أوجاعه وجروحه، يخفي كل أحزانه ويحاول إظهار جلده وصبره المعتاد، برغم علمه وتأكده أن قرة عينه يتعذب وتتقاذفه زنازين بشعة وتنهش جسده سياط الجلاد الحوثي، ولكنه هذه المرة لم يستطع الصمود أمام حزنه الشديد على توفيق، وظهرت أعراض وجعه وحزنه بشكل واضح ومخيف، وكانت عيناه التي رأت توفيق معذبا هي التي كشفت ما يخبئه من أوجاع، تسكب الدمع دون أن تقول شيئاً، تلاشى نظره وأصبح لا يقوى على التركيز والرؤية بوضوح، ومع أن هذه مؤشرات مفزعة ومرعبة إلا أن أبي كان يواري هذه الأوجاع بعيداً عنا، وبصعوبة توصلنا لإقناعه بزيارة أخرى لصنعاء يجري الفحوصات الطبية ويرى توفيق المغيب ظلماً وعدواناً.
وهناك كانت واحدة من أصعب صدمات الحياة التي عشتها، "جلطة تهدد الشبكية وقد تكونت مياه زرقاء في العين"، هذا ما قالته الفحوصات الطبية المتكررة، استطاع الأطباء استعادة جزءا من نظر إحدى عينيه المتضررتين وأصبحت شبه سليمة ولكنها ليست كما كانت وكما نتمنى، ولا يزال يصّر إنه بخير وأن نظره كما كان ولا يوجد ما يستدعي حزننا وقلقنا، ألزمه الأطباء باستخدام أدوية الضغط بشكل مستمر مدى الحياة، ولا زال يواسيني ويربت على كتفي عند كل مساء، وكأني من أعيش فيه وأعاني أوجاعه وأحزانه.
في الهجوم الأخير للمليشيات الحوثية على "جبهة نهم والجوف" قال لي لن أغادر مارب إلا عائداً إلى بيتي مع الأبطال الفاتحين أو نموت هنا وندفن جوار الرجال المخلصين، يشاهد بطولات وتضحيات أبطال الجيش الوطني ويستحضر مواقف القادة العسكريين العظماء والمقاومين الأحرار الذين يعرفهم والتقى بهم، يردد موقفه من لقاء القائد الشهيد عبدالرب الشدادي عام 2011م، أثناء الثورة الشبابية، بشموخ واعتزاز، يسرد تفاصيل ذلك اللقاء بشكل دقيق، لقد نزل من المنصة البطل عبدالرب الشدادي المكلف بحماية ساحة التغيير آنذاك، وانكب يقبل رأسه شكراً وعرفاناً "لإنجاب وتربية هؤلاء الابطال نادري الشجاعة" كما أخبره، ويقصد بذلك أخي توفيق.
غادرت روح أبي الحياة ولا يزال يساورني الشك أنه سيعود ساعة ما، ولا زالت كلماته ووصاياه تتردد على مسامعي كل ساع وحين، ويقتلني الوجع على شقيقي توفيق كيف سيستقبل الفاجعة وهو ينتظر لحظة احتضان والدي منذ ست سنوات مضت.سيعود اخي توفيق منتصراً شامخاً كعادته وسينتهي الحوثي ومليشياته ولكن جرائمهم ستبقى لن ننساها ولن تسقط بالتقادم.اللهم أني أسألك أن تتغمد والدي الحبيب بواسع رحمتك ومغفرتك ورضوانك وتسكنه فسيح جناتك، وأن تعيد إلينا أخي توفيق سالماً معافى عاجلاً غير آجل، آمين.