صحفي يمني
نقيل يَسْلِح.. وقُبح الخيانة
الاربعاء, 27 يناير, 2021 - 09:16 مساءً
قبل أنْ يبدأ حصار صنعاء بثلاثة أسابيع، كانت عدن تشهد أحد فصولها الدامية، ضمن سلسلة صراع الإخوة الأعداء، هذه المرة بين عناصر الجبهة القومية وجبهة التحرير، التي انتهت بإقصاء الأخيرين، وفي تعز وجد هؤلاء أنفسهم أمام معركة أخرى، هي أحق أنْ يبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الانتصار لها.
كان معسكر الحوبان الإطار الذي يحتوي هؤلاء المقصيين، وعندما اشتد الحصار على صنعاء، كان ما يزيد عن 350 منهم يُسطرون أبهى لحظاتهم النضالية في تخوم نقيل يَسْلِح، لغرض فتح طريق صنعاء - تعز.
قصدوا النقيل وأحلامهم تسبق خطاهم، يحملون أرواحهم على أكفهم، ليقدموها قربانًا لقضيتهم، قضية كل اليمنيين، وقد كان احتشادهم ذاك، وفي منطقة معبر تحديدًا، بمُوجب مبادرة أطلقها كلٌ من محمد عبده نعمان وزير الوحدة حينها، وهاشم عمر إسماعيل، وسعيد محمد الحكيمي، وبالليل بن راجح لبوزة، ونصر بن سيف، وعبدالرحمن الصريمي، وذلك باعتبارهم تنظيماً شعبياً، لا جيش دولة، ولا مقاومة شعبية.
ذات نهار كانوني، وفي ذروة حماسهم التحرري، تجاوزوا ومعهم عدد من المُقاتلين الشماليين نقيل يَسْلِح، وصولًا إلى بلاد الروس، وإلى منطقة خدار تحديدًا، وذلك بعد أنْ سيطروا على مواقع هامة للإماميين، وفكوا الحصار عن الشيخ أحمد القفري ومن معه من مجاميع قبلية، إلا أنَّ قيادة الحملة في معبر لم تسمح لهم باستعمال الأسلحة الثقيلة، ما سبب إحباطًا كبيرًا لهم، ولجميع القوات المُهاجمة؛ فخسر الجميع المعركة، وخسروا لوحدهم نحو 45 شهيدًا، غير الأسرى الذين تم التنكيل بهم في جحانة، ردًا على أسر أحد المُرتزقة الأجانب وقتله.
بعد أيام قليلة، وتحديدًا يوم 21 ديسمبر 1967م، قامت القيادة بحملة ثانية أكبر من سابقتها صوب نقيل يَسْلِح، وقد تولى قيادتها العميد حسين الدفعي، وإلى جانب أبطال جبهة التحرير، تكونت القوة الهجومية من كتيبة مشاة من لواء السلام، وسرية دبابات، وعدد من قطع المدفعية مُختلفة العيارات، إلى جانب قاعدة صاروخية كاتيوشا بقيادة المقدم محمد علي الثلايا، ومجاميع من الجيش الشعبي، من تعز، وإب، وعنس، ورداع.
تجسدت أبهى لحظات الإقدام بقيام مجموعة عسكرية باقتحام دفاعات الإماميين، لم تكد تصل إلى رأس النقيل، حتى جاءت الأوامر بالانسحاب، قلة فضلوا الموت أو الأسر على التراجع، طوقهم العدو مُركزًا قصفه على دبابة وحيدة، رفض قائدها الملازم أول علي الشيباني الترجل منها، وتركها غنيمة، ورمى بنفسه وبها في جرف سحيق.
وفي الجهة الأخرى، ظل الملازم أول محمد السامعي - من الوحدات المركزية، وقائد تلك المجموعة - مُمسكًا بزمام رشاشه الصغير، لم تمنعه الإصابات المُتوالية على جسده عن التوقف، وحين رآه زملاءه مزهوًا برتبته العسكرية، طالبوه بنزعها حتى لا يُركز عليه أكثر، قال لهم: «بذلت الجهد من أجل الحصول عليها، وأريد أنْ استشهد بها».
سطر المُهاجمون صفحات مُشرقة في تاريخ اليمن النضالي، ولم ينسحبوا إلا بعد أنْ سقط المئات منهم بين قتيل وجريح، وسقط 50 شهيدًا من أعضاء جبهة التحرير وحدها، وقد جسد شهداء الأخيرة - الذين اقترب عددهم من المئة - واحدية الثورة اليمنية، نذكر منهم: قائد جبهة ردفان نصر بن سيف، وقائد جبهة الشيخ عثمان هاشم عُمر إسماعيل، وقائد فرقة النجدة الفدائية سالم يسلم الهارش من شبوة، وحسين موقد، وفضل محسن باصم، وعمر هيثم الحالمي، الثلاثة الأخيرين من ردفان، ومحمد سعيد علي من الحوطة، ومحمد علي اليافعي، ومقبل سلام قاسم، والخضر سعيد حميد، وصراب سعيد صالح.
أثرت تلك الانتكاسة سلبًا على الموقف العسكري العام، استغل الإماميون ذلك جيدًا، وقاموا بقطع طريق معبر- ذمار، بمُساعدة كبيرة من قبل القبائل المحيطة بذلك الخط، التي كانت في الأغلب حتى تلك اللحظة إمامية، ليتركز نشاط من تبقى من القوات الجمهورية على فتح ذلك الطريق، وقد تم لها ذلك بعد أيام معدودة.
تحدث بعض من شارك في تلك الحملتين، من أعضاء جبهة التحرير، عن وجود خيانة من قبل بعض أفراد القبائل المُجاورة، الذين سلموا مواقعهم للإماميين، كما لم يسلم أحمد العنسي قائد معسكر معبر من ذات الاتهام، الأمر الذي ولَّد خلافات في صفوف جبهة التحرير نفسها، وتركز الخلاف بين مؤيد ومعارض لتلك المُشاركة، وكانت حُجة الأخيرين أنَّ معركتهم الرئيسة في عدن.
قامت القيادة بعزل ومعاقبة الخونة، وسارعت بتوجيه حملة ثالثة صوب ذات النقيل الصعب 2 يناير 1968م، بقيادة المقدم حسين شرف الكبسي، وقد شارك في هذه الحملة عدد كبير من وحدات الجيش الشعبي من تعز، وإب، ومُراد، وقيفة، وعنس، والحدا، وجهران، إلى جانب وحدات الجيش النظامي من مشاة، ومدفعية، ودبابات، أما أعضاء جبهة التحرير فلم يشاركوا فيها، بفعل الخيانة التي لدغوا منها مرتين، ولُدغ منها - كما سيأتي - المُشاركون في هذه الحملة أيضاً.
لغرض رفع الروح المعنوية لدى المُقاتلين، شارك عضو المجلس الجمهوري الشيخ محمد علي عثمان في هذه الحملة، لتواصل القوات المُهاجمة بفعل حماسها الزائد تقدمها إلى رأس النقيل، وتمكنت بالفعل من السيطرة على عدد من المواقع الإمامية، واغتنام الكثير من الأسلحة، وما هي إلا ساعات محدودة حتى تقهقرت تلك القوات بفعل خيانة بعض المجاميع القبلية، التي امتهنت الارتزاق، والطعن من الخلف.
وعن تلك الخيانة قال علي عبدالله صالح: «في هذه الأثناء شنت القوات الملكية هجومها المضاد، فانسحبت مجاميع الجيش الشعبي التي كانت صامدة في مواقعها، باستثناء البعض ممن رفضوا الانسحاب، مثل الشهيد زين الله العامري، الذي ظل يقاتل حتى تم اغتياله من قبل جماعته، والشيخ عبدالله الرويشان الذي كان يصرخ أثناء المعركة: لقد باعونا، بعدها صدرت الأوامر بانسحاب القوات المهاجمة، بعد أن فقدت نصرًا كان في يدها، وفقدت عددًا كبيرًا من أفرادها».
عادت بعد ذلك القوات الجمهورية إلى مواقعها أسفل النقيل، وأعيد توزيعها ضمن ثلاث خطوط دفاعية، وتم تثبيت الموقف العسكري على هذا الأساس، والحق يُقال: أنَّه ورغم فشل المُحاولات الثلاث في تحقيق أهدافها، إلا أنَّها لعبت دورًا كبيرًا في تخفيف الضغط على صنعاء، وأشغلت الإماميين في ذات المحور، وكبحت اندفاعاتهم نحو العاصمة المُحاصرة، وفي المُجمل اختلط في يسلح الحابل بالنابل، وتبادل المُتحاربون المواقع أكثر من مرة، فيما قدرت الإصابات من الجانبين بحوالي 3,000 ما بين قتيل وجريح.
أما قوات الجيش الشعبي المُوالية للجمهورية قلبًا وقالبًا، فقد توجهت من معبر إلى الحديدة للمُشاركة في فتح طريق الحديدة - صنعاء، وقد تحدث المناضل عبدالغني مطهر في مُذكراته أنَّه قام بتجميع حوالي 4,000 مُقاتل من تعز وحدها، وفي الطريق انظمت قبائل بني مطر بقيادة الشيخ أحمد علي المطري للقوات المُهاجمة، وبالتحام هذه المجاميع الشعبية والقبلية، مع القوات المُسلحة القادمة من العاصمة، تحقق النصر، وفُك الحصار عن صنعاء.
أما نقيل يَسْلِح، النقيل الكارثة، فلم تتم السيطرة عليه - كما كان مُخططاً من جهة معبر، بل من جهة صنعاء، وذلك بعد عدة أشهر من فك الحصار عن الأخيرة، وقاد تلك الحملة الفريق حسن العمري نفسه، وتم الهجوم عبر أربعة محاور، محور باتجاه النهدين - حزيز، وثاني باتجاه حصن عمر العلب - ريمة حُميد، وثالث باتجاه بيت بوس - سواد حزيز، وأخير باتجاه جروان - وادي الأجبار في سنحان، وشارك في تلك الحملة العميد حسن الدفعي، والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، والشيخ نعمان بن قايد، والفريق قاسم مُنصر (انضم حينها للصف الجمهوري)، ولم ينته عام 1968م إلا وطريق صنعاء - تعز سالكًا، ومُعظم القبائل المحيطة به جمهورية.