سنة أولى نزوح
الاربعاء, 08 نوفمبر, 2017 - 03:55 صباحاً
في مثل هذا اليوم غادرت القرية متجها إلى مارب، عام كامل انقضى وأنا في منفى شبه اجباري، لا أستطيع العودة، مثلي هنا في المدينة الصغيرة عشرات الآلاف، نزحوا فرارا من الحرب والدمار وجرائم المليشيات.
الحصول على منزل في مارب لم يعد بتلك السهولة، سيتوجب عليك دفع إيجار لنصف عام مقدم، وبمبلغ خيالي.
في مثل هذا اليوم، اتصل بي أحدهم أن نلتقي في الصباح، سنغادر صوب مارب، احتضنت خولة ومحمد وعائشة، خفية، بعد صلاة المغرب، لم يعلم بوداعنا الحميمي أحد، حتى هم، التقطت بعض الصور لهم، كان سلاما حارا قبـّلتهم حد الاسراف، وشممت ريحتهم كما فعل النبي يعقوب بثوب ولده يوسف، عليهما السلام،.. وداعا كما لو أنه الأخير.
ابني محمد ما إن بدأ يعرف الحياة ليفارق أمه التي انطفأت كشمعة في كامل قوامها وصلابتها، أغمضت عينيها إلى الأبد، كنا مبعثرين في الجبل، بمفردها داخل السيارة واجهت الموت ناضلت لأجل البقاء، أسعفها أحدهم إلى المستشفى.. كان الموت قد أخذها بعيدا.
في تلك الليلة كانت حزينة، ذرفت عيناها دمعا، عندما سألتها؟ أجابت بأنها لأول مرة تسافر ولن ترى والدها، والدها الذي توفي منذ أربعة أشهر آنذاك، لكنها باتت بجواره.
مر شريط من ذكريات، وأنا في طريقي إلى البيت كنت أسير برفقة الظلام وضوء القمر الباهت.
كنت أحمل جسدي بلا فؤاد، وحياة بلا روح، فؤادي فارغ من كل شيء ومليء بالحب، صورة محمد الذي يراني أب وأم، كنت أتنفسه، وعبارته المعهودة لم تبارح مسامعي، يقولها عندما كنت أغادر البيت إلى العمل، لا زال يرددها حتى اليوم بعد كل اتصال "بابا.. هذي البوسة لك".
إنها المرة الأولى التي سأفارق زوجتي وأطفالي، لم أخبرهم أنني سأسافر، انطلقت نحو المجهول، كان الموت يرتسم لي في الأفق، الحرب بلغت أوجها.. في تلك الأيام، فاق عدد الضحايا الـ 30 ألف من الطرفين.. تحولوا إلى جزء من الذكريات صورهم تملئ الشوارع والأحياء، باتوا تحت الرماد.
عندما وصلت مارب كتبت رسالة عبر الهاتف إلى زوجتي التي كانت مريضة " أتمنى لك السعادة، اعتني بصحتك جيدا، واهتمي بتعليم الأطفال.. وصلت الآن مارب" جن جنونها، اعتذرت لها لاحقا بأنني كنت مجبرا على فعل ذلك.
الذهاب إلى مارب ليس سهلا، الطريق محفوف بالمخاطر، نقاط المليشيات بالعشرات، تترصد المارة، الصحفيون بالنسبة للمليشيا صيدا ثمينا، نحو 18 صحفيا مختطفون في صنعاء منذ اندلاع الحرب، بينهم ثلاثة زملاء من الصحيفة التي كنا نعمل فيها.
حصلت العديد من صفقات تبادل الأسرى بين الحكومة والمليشيات ليس فيهم صحفيا، عندما سمح لأحدهم بالاتصال من السجن، كان يعمل مصححا لغويا في الصحيفة، حدثني بصوت خافت " ألو ..عدنان، انتبه أثناء التحقيق معي سألوني عنك، فقلت لا أعرف".
في ذلك المساء زرت الأستاذ، هكذا نسميه، ودعته تبادلنا الحديث، تناولنا عشاءنا الأخير.. خبز وحزمة من الثوم الأخضر منحنية كأنثى نائمة تبحث عن الدفء، حدثني الأستاذ عن الثوم وعدد لي فوائده، كان البؤس يتجلى بأقبح صوره.
كان عشاء يشبه عشاء الزهاد والأولياء، في تلك الليلة فقط راجعت ما يردده الأهالي هنا يزعمون أن الاستاذ ينحدر من سلالة خليفة المسلمين الثاني، عرف بتقشفه وورعه.
مكثت في البلاد عاما كاملا، وصلتها في 5 نوفمبر2015، وغادرتها ذات اليوم بعد عام، كانت مصادفة عجيبة..تذكرتها وأنا مغمض عيناي من شدة الريح البارد فوق راكب فوق دراجة نارية.
خلال عام عملنا سويا مع شباب القرية، نظمت انتخابات وكدت أن أحصل على المرتبة الأولى، كنت أحضا باحترام الناخبين، طبعا لم أعدهم بشيء.
خلال أشهر ناقشنا أوضاع القرية، أصلحنا بعض ما أفسده الدهر، لكن الخراب سرعان ما ينتصر علينا ويشتت جهدنا، كانت تلك الذكريات هي أجمل ما مر علي في ذلك العام.. وربحه الأوفر.
ذات صباح جميل داهمنا قرية "عرتون" كنا نتوشح أسلحتنا ودروعنا، "كريكات، وصبار، واسمنت وزع على البعض ليخف حلمه"، لإصلاح مشروع الماء الذي أهمل منذ سنوات.
الغزوة كانت بقيادة شيخ القرية، وعضو المجلس المحلي، مررنا بأماكن تشبه الأدغال، وأزقة تنبع منها عطر العشاق ونسيم المحبين، في الطريق صادفنا أشياء جميلة، في "السائلة" رأى صديقي جعفر ذلك اليوم شيئا أدهشه.
أزقة مغطاة بالشجر لم تظهر الشمس عليها بعد، الماء ينساح من الجدر، خرير الماء يملئ المكان، وصوت يأتي من بعيد..ليرد عليه آخر لا تراه، في خولان ..كل شيء يشعرك بالحب والحنين.
ضحكات محمد علي بن قائد، رافقتنا طيلة الطريق، ولعنات محمد عبدالله كذلك، كان يلعن أحيانا.. وأحيانا يتمتم بعبارات بذيئة، البعض في القرية يناديه بـ "الزيطة" هكذا يلقبونه، لكنه شخص مرح لا يكره احد.
محمد ناجي، دليل الطريق ومسؤول المشروع، يتهمه الأهالي أن تقصيره هو السبب في ضياع المشروع، لكنه لا يأبه لما يرددونه كعادته، يلبس جزمة سوداء، وبنطلون من ملابس العسكر، نجحنا بالمهمة وبعد ايام وصل المشروع.. لكن بصعوبة.
عندما كنت أمكث كضيف في خولان عندي صديقي حسن الكدهي، يستغل وجود لأساعده في بعض العمل، وقت المقل يقدم لي كأسا من الزنجبيل لكي أسكت خصومه الذين يناصرون المليشيات... فأقوم بالواجب..في حين أنه يبقى صامتا، إلا في حين لا يستمع أحدهم يرد عليه "اسكت عليك لعنة الله".
في الصباح نأخذ الحمار وأدوات الحفر.. كنا نحفر في الماء بحثا عن التراب، نغوص في الماء البارد في وقت مبكر من الصباح حتى المنتصف، هناك في خولان يعتمد الأهالي على السيول لتجرف لهم "النيس" يكثر الزحام مع وقت الظهيرة حول "الميزاب"، منبع الماء، الشباب يترددون بحجة التنزه، والفتيات يملئن الطرقات لجلب الماء.. عبق المكان وضجيج السيول الهادرة من المرتفعات وصراخ الصبية والفتيات حول الماء يصبغ المكان بالحياة.
عام هرول بسرعة، ونحت في قلوبنا مواجع الفرقة وأحزان الغربة، هنا أسكن مع صحفيين معظمهم لم يحصلوا على فرصة عمل، لكنهم أقوياء وجلدون، ينظرون إلى الغد بتفاؤل رغم شحته، مؤمنون أن الحياة لن تستمر على حال.. وأن اليأس لا يليق بالأبطال.