صحفي يمني
إمام ولو بدرجة نائب سلطان
الاربعاء, 27 يونيو, 2018 - 09:51 مساءً
ما أن لفظ «الهادي» شرف الدين محمد بن عبد الله «عشيش» أنفاسه الأخيرة «6يونيو 1890»، حتى أجتمع علماء الزيدية في صعدة، ورشحوا ولده «محمد» الشهير بـ «أبو نيب» بدلاً عنه، رفضها الأخير، وقيل لم أنه يستوفِ شروطها، فما كان منهم إلا أنهم وحسب وصية الإمام المتوفى راسلوا محمد بن يحيى حميدالدين، الذي كان حينها مقيماً في صنعاء، طلبوا منه الحضور، وفي صعدة اختاروه إماماً، كونهم حد توصيف «الجرافي»: «لم يجدوا من يصلح للإمامة غيره».
تلقب الإمام الجديد بـ «المنصور»، وهو من «الأسرة القاسمية»، ولكن من فرع لم يتولَ الإمامة من قبل، كان شديد التعصب لمذهبه، منكراً لما دونه من مذاهب، ولقب «حميد الدين» التصق بأبيه، لمصاهرة حدثت بينه وبين آل حميد الدين بن المطهر، من أسرة «شرف الدين» في كوكبان.
في تلك الأثناء، كان لا يزال «المهدي» محمد بن قاسم الحوثي قائماً بالدعوة لنفسه في «برط»، أرسل إليه «المنصور» جماعة من أهل صعدة وضحيان، فاوضوه، فما كان منه إلا أن خلع نفسه، وبايع الإمام الجديد.
بعد ثلاثة أشهر من دعوته، غادر «المنصور» صعدة، وجعل عليها «أبو نيب»، استقر بـ «القفلة»، وجعلها عاصمة له، ومن هناك أخذ يوجه دعاته لاجتذاب القبائل الزيدية لمحاربة الأتراك، أعداؤه الذين كان وما زال يكن لهم عظيم الكره، فقد حبسوه في الحديدة قبل «15» عاماً، والسبب مناصرته حينها للإمام «محسن الشهاري»، وكان قبل ذلك قد تولى باسمهم قضاء حجة، إلا أنه لم يدم طويلاً، بدأ عهده بمحاربتهم، واستجابت القبائل بالفعل لندائه التحريضي، وعبر عن ذلك شعراً:
أجيبوا دعائي، ولبوا ندائي
وقوموا بحق عليكم وجب
وشدوا الهمم، لحرب العجم
وضرب القمم، ونفي الريب
ليس في بلاد من بلاد الزيدية في اليمن ـ كما قال «العرشي» ـ إلا ولـ «المنصور» فيها معركة، وقيل أنها وصلت لحدود «150» موقعة، سيطرت قواته عام توليه على «الشاهل»، هزمت الحامية العثمانية فيها، وقتلت قائدها محمد عارف، أما باقي الحملات فقد توجهت صوب «ظفير حجة، ومسور، وحفاش، وملحان، والروضة»، وكان الشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر من أبرز أنصاره.
لم يأتِ العام «1892» إلا وقوات «المنصور» التي قدرت بـ «70,000» مقاتل، تحاصر صنعاء، دارت حينها معارك كثيرة في «عصر، ونقم، والجرداء، والجراف»، فيما أعلنت «ذمار، ويريم» طاعتها من أول وهلة، كما تشجع «مستوطنو بكيل» في «اليمن الأسفل» على التمرد، حاصروا الأتراك في مراكزهم بـ «إب، والقاعدة»، وقد كان لوفاة الوالي العثماني إسماعيل حقي ـ حينها ـ أثره البالغ في تنامي حدة تلك التمردات.
عانى سكان صنعاء من ذلك الحصار الأمرين، وحين أشتد ببعضهم الجوع، خرجوا بأهلهم بحثاً عن مكان آمن، وفي الطريق تلقفهم المحاصرون، وفتكوا بهم، وقد فضح «الواسعي» جُرم تلك القبائل، بقوله: «ارتكبوا أنواع الفضائح، وأغضبوا الرب تعالى بفعلهم القبائح، هتكوا الأنفس والأعراض، وكلما خرج إنسان نهبوه، وإن وجدوا امرأة هتكوا عرضها».
كما ينقل الرحالة الانجليزي «هاريس»، الذي كان متواجداً حينها في صنعاء، تفاصيل دقيقة لبعض المعارك التي دارت حولها، يقول في نقله لإحداها: «أطلقت القوات العثمانية المتحصنة في قلعة صنعاء نيران مدافعها بصورة منتظمة على مواقع رجال القبائل المحاصرين للمدينة، مما ساعد العثمانيين على الخروج من البوابة الجنوبية والاتجاه شمالاً، حيث نشبت معركة عنيفة، رجحت كفة الترك، وتمكنوا من طرد رجال القبائل الذين اضطروا إلى التقهقر تجاه قرية صغيرة قريبة من أسوار صنعاء، وقد تمكنت القوات التركية بمساعدة بعض المدافع الصغيرة من تدمير منازل تلك القرية تدميراً تاماً، وتمكنت كذلك من رد هجوم مضاد قام به الثوار، وأخيراً اضطر رجال القبائل إلى التقهقر بعد أن تركوا آلافاً عديدة من القتلى في ميدان المعركة، ورغم انتصار القوات التركية على الثوار، فلم يكن هذا الانتصار كله في صالحهم، إذ أدى ترك جثث القتلى دون دفنها إلى انتشار الأمراض بين السكان».
عين الأتراك حسن أديب والياً، وحين لم يصل الأخير صنعاء بسبب الأوضاع المضطربة، صدرت الأوامر لأحمد فيضي باشا ـ رجل المهمات الصعبة ـ بالتوجه من مكة إلى الحديدة، وهو والٍ شجاع، سبق وتولى ولاية اليمن، نجح ومعه آلاف العساكر بإخماد ذلك التمرد، يقول «الواسعي»: «مع فساد نية القبائل، وارتكابهم المحرمات، حاق مكر الله بهم، فلم يزالوا ينهزمون للأتراك من محل إلى محل، وأصابهم الخوف والوجل، والذل والفشل، وكلما وصلوا إلى محل، هرب أهل ذلك المحل، حتى دخل الوالي صنعاء، وعم الناس السرور والفرح، وزال عنهم البؤس والترح».
وفي «اليمن الأسفل» تحركت قوات تركية من تعز إلى إب، سيطرت عليها دون قتال، ولم يعترض طريقها إلا بعض «مستوطني بكيل» في «نقيل السياني»، وقد ولوا بعد هزيمتهم هاربين، وإلى ذلك أشار «صاحب الدر المنثور»: «تقدمت العجم من مدينة تعز إلى حصون الأخطور ونقيل المحرس، وفيها جماعة من آل دماج، وأحمد بن قائد، وجماعة من ذو غيلان، فوقع الحرب بينهم بالموضعين.. وأخذت العجم الحصنين».
أصدر الوالي «فيضي» بعد ذلك أوامره بالعفو العام عن كل الخارجين، فأعلنت القبائل الزيدية المتمردة طاعتها له، وما هي إلا أسابيع معدودة، حتى قاد بنفسه جيشاً جراراً صوب «القفلة» عاصمة الإمام «18 مايو 1892»، وحين أدرك الأخير أنه هالك لا محالة، سارع بتهريب الأموال والذخائر، ثم أوى إلى كهف يعصمه من الموت.
وفي ذلك قال «صاحب الحوليات»: «والإمام باقي بالبطنة، هيجة غربي سوق الحرف، ـ يقصد حرف سفيان ـ متصلة بالعمشية، أرض قفرة لا يسكنها إلا البدوان، قيل أن فيها جرف منحوتة في الجبل، وقد صارت في هذه المدة مفر للأئمة، كلما نابت نائبة لجأوا إليها»، وكان «محسن الشهاري» قد استوطنها من قبل، وكذلك فعل «الهادي» عشيش.
وكان «المنصور» قبل ذلك قد ناشد القبائل المنهزمة بقصيدة طويلة، نقتطف منها:
أفي الدين أن يبقى إمام بنفسه
وحيداً وما منكم معينٌ على أمر
ولا تبخلوا بالمال عنه وقد سخا
بمهجته، والروح أغلى من الدُّر
أنيبوا أنيبوا قبل أن تمطر السما
عليكم بأنواع المصائب والفقر
حين وصل الوالي «فيضي» إلى «القفلة» ولم يجد «المنصور» فيها، أمر بتدمير بعض الحصون، ثم توغل في مناطق «حاشد»، وصولاً إلى «برط العنان»، وهناك أخذ جنوده الأسرى من قبيلة «ذو محمد» دون فدية، ليوجه فور عودته صنعاء باعتقال «55» من العلماء والأعيان، بتهمة التواصل مع الإمام الهارب، أرسلهم إلى الحديدة، ومن هناك تم نفيهم إلى «جزيرة رودوس» في البحر الأبيض المتوسط، وقد ظلوا فيها قرابة «18» عاماً.
رغم جبروته واتهامه بالفساد، إلا أن الوالي «فيضي» عمل على تحقيق بعض الانجازات التي تحسب له، فقد شيد ـ عام توليه ـ عدد من الحصون والقلاع فوق الجبال المطلة على مدينة صنعاء، للدفاع عنها من هجمات القبائل المتكررة، كما أعاد بناء «باب اليمن» على هيئته الحالية، وأمر بتعبيد الطرق بين ألوية الولاية، وقال عنه «صاحب الدر المنثور»: «وغرم في ذلك أموالاً واسعة.. كل ذلك لأجل أن ينسيهم الفساد، ويُشغلهم بذلك عن المراد»!!.
لم تطل مدة بقاء «المنصور» بالكهف، فقد وصل إليه عدد من مشايخ حاشد، أرضوه بعقير، وطلبوا منه النزول في ضيافتهم، أقام بـ «حوث» مدة، ثم أدلف راجعاً إلى «القفلة»، ليبدأ بعد ذلك بالتدلل إلى الأتراك، والتوسل إلى سلطانهم عبد الحميد الثاني بعدة مراسلات، طلب منه في إحداها أن يحكم «اليمن الأعلى» تحت مظلة السلطان، تماما مثل محمد علي باشا وبنيه، ولم ينسَ أن يتباهى بسلالته، وبأنها الأحق بالحكم والولاية، ولو بدرجة «نائب سلطان».
يقول «المنصور» في إحدى رسائله: «ولو يعلم السلطان الأعظم حقيقة الحال، لسارع إلى إعانتنا في الحال والمآل، ورفع جميع المأمورين من الخطة اليمانية، وأمرهم بحرب الفرقة الكفرية، ولمنعم من محاربة العترة النبوية، التي هي بضعة من الذات الشريفة المحمدية».
حين يأس «المنصور» من الأتراك، فتح خط تواصل مع الانجليز «الفرقة الكفرية»، وقد كان السلطان فضل العبدلي وسيطهم إليه، وبتحريض انجليزي عادى الأتراك، واستمات في حربهم، وكانت حروبه هذه المرة تخريبية، حرب عصابات، اقتصرت على قطع أسلاك التلغراف، ومهاجمة الطرق، ونهب البريد.
تجرأ «المنصور» بعد ذلك على قتل معارضيه، ونسف بيوتهم، وتسميم مياه الشرب، بل وأصدر فتاوى بذلك، وقد خصص بئراً لخصومه من همدان، دفنهم فيه بعد اغتيالهم، كما أرسل أحد أنصاره لنسف «سمسرة وعلان»، كون صاحبها محمد حسن فايع من الموالين للأتراك، دخل الانتحاري وأكياس البارود محمولة فوق ظهر الحمار، اشعل النار، ونسف السمسرة، وقتل «35» رجلاً، غير الدواب.
كما أمر بتفجير منزل صالح متاش، ومحمد الحيمي، وغيرهم الكثير، والأدهى والأمر من ذلك، أنه رفض مقترح عدد من العلماء والأعيان، وصلوا إليه يترجوه بإخراج السكان من تلك المنازل قبل نسفها، فكان رده عليهم: «الصغار في الجنة، والكبار في النار»!!.
تم عزل الوالي أحمد فيضي «1897»، وحل محله حسين حلمي باشا، لم يكد الأخير يصل العاصمة، حتى أعترض موكبه في «متنة» جموع غفيرة من القبائل المناصرة لـ «المنصور»، كان الأخير قد تعب في تحشيدها لحصار صنعاء ـ وهو ما يسميه بعض المؤرخين بالحصار الثاني ـ إلا أنهم فور سماعهم بوصول ذلك الموكب، تخلوا عن مهمتهم طمعاً بالغنائم، احتاط الأتراك للأمر، حموا واليهم، وتفرقت القبائل من حولهم تجر أذيال الخيبة.
استبشر اليمنيون بمقدم الوالي «حلمي» خيراً، وهو بشهادة كثير من المؤرخين يعد من أفضل الولاة، قام بإصلاحات جمة، عزل الفاسدين، وأسس داراً للمعارف، وداراً للمعلمين، ومكتباً للصنائع، كما أصدر أوامره بأن يكون التعليم إجبارياً لجميع اليمنيين، وجعل إلى جواره هيئة من أهل العلم والسياسة، يشاورهم فيما يمكن عمله لإصلاح البلاد والعباد، وحفاظاً على الهوية اليمنية أستصدر من «الباب العالي» أمراً بأن يلبس الموظفون العمائم بدلاً عن الطربوش، خلافاً لأوامر الوالي السابق.
سحب الوالي الجديد البساط من تحت أرجل «المنصور»، ناصره بعض المشايخ، وناشدوا أقرانهم بذلك، وبالفعل انضمت قبائل «وداعة، وحاشد» لذات الحلف، وقد ذكرت وثائق عثمانية أن حوالي «200» شخص من مشايخ وسادات «بني حشيش» برئاسة عبدالله بن الإمام محمد الوزير طلبوا الأمان، وتخلو عن مناصرة «المنصور».
الأهم من ذلك كله، أن «حلمي» كان له توجه للصلح مع «المنصور»، الأمر الذي تعارض مع مركزية الدولة الشديدة، وميول بعض النافذين للفساد، وحين أشتد التضييق عليه، قدم استقالته، وغادر اليمن «1900»، وفي ذلك قال «الواسعي»: «وأسف الناس عليه، لاسيما أهل العلم، وسافر وهيئته، وأحيلت الولاية إلى المشير عبدالله باشا».
لم ينعم اليمن في عهد عبدالله باشا بالاستقرار، استشرى الظلم والفساد، واشتد الجدب، وارتفعت الأسعار، وحين أحتل الإنجليز منطقة الضالع «1902»، لم يحرك الوالي ساكناً، الأمر الذي أغضب «الباب العالي» عليه، أصيب في تلك الأثناء الإمام «المنصور» بالشلل، ليتوفى بـ «القفلة» ليلة الخميس «4 يونيو 1904»، وقد دفن حسب ما أوصى في«حوث».