صحفي يمني
الشوافع.. كـُفار أم مُنافقين؟!!
الإثنين, 27 أغسطس, 2018 - 05:28 مساءً
بخروج الأتراك من اليمن منتصف القرن الحادي عشر الهجري، صار «اليمن الأسفل» ميراثاً سهلاً لـ «الدولة القاسمية»، لتدخل الزيدية ـ دولة ومذهبا ـ مَرحلة اختبار حقيقي في كيفية تعاملها مع الآخر، ظلت فتاوى الفقهاء حول ذلك تراوح مَكانها، حتى تولى الإمامة الفقيه المُتعصب «المتوكل» إسماعيل بن القاسم، الذي صنع بفتاويه أعداء وهميين، احتوى أقاربه الطامحين، وجيَّش القبائل المُتعطشة للفيد جنوباً وشرقاً، مُؤسساً بذلك أسوأ احتلال عرفته تلك المناطق على مدى تاريخها.
كان «المتوكل» شديد التعصب لمذهبه، لديه فتوى شهيرة كفر بها أبناء المناطق الشافعية، أسماها: «إرشاد السامع، في جواز أخذ أموال الشوافع»، أصدرها بعد ثلاث سنوات من توليه الإمامة «1058هـ»، ألزمهم فيها بدفع الجزية بدل الزكاة، وجعل أرضهم خراجية حكمها كأرض خيبر، بحجة أنها انتزعت من الكفار الأتراك، وحين أرسل إليه أحد عماله يسأله: «هل يؤاخذنا الله فيما نفعله بحق هؤلاء..؟!»، كان جوابه: «إنني أخشى أن يسألني الله عما أبقيت في أيديهم».
كما ألزمهم بفتوى أخرى أن يزيدوا في الأذان «حي على خير العمل»، وأن يتركوا الترضي عن الشيخين، وحين راجعه عدد من أقاربه وفقهاء مذهبه، بعد أن ساءهم الظلم والاعتساف الذي طال بسبب فتاويه الرعية «الشوافع»، تعصب لرأيه، ورد عليهم بقوله: «أن هذه الأصول معلومة عندنا بأدلتها القطعية، ومدونة في كتب أئمتنا».
وأضاف: «المجبرة ـ وهم من يعتقدون أن الله أكرههم على فعل المعاصي ـ والمُشبهة كفار، والكفار إذا استولوا على أرض ملكوها، ولو كانت من أراضي المسلمين، ويدخل في حكمهم من والاهم، واعتزى إليهم، ولو كان معتقده يخالف معتقدهم، وأنَّ البلد التي تظهر فيها كلمة الكفر بغير جوار كفرية، ولو سكنها من لا يعتقد الكفر، ولا يقول بها أهله، فإذا استفتح الإمام شيئا من البلاد التي تحت أيديهم، فله أن يضع عليها ما شاء، سواء كان أهلها ممن هو باق على ذلك المذهب أم لا».
العلامة الحسن بن أحمد الجلال كان من أكبر مُعارضي «المتوكل»، ألف كتب ورسائل كثيرة، ضمنها انتقادات لجملة من تلك المظالم، منها رسالته الشرعية: «براءة الذمة في نصيحة الأئمة»، انتقد فيها غزوات الإمام الفقيه، ومحاربته لـ «الشوافع»، واستباحته نفوسهم وأموالهم.
لم يكتفِ «الجلال» بذلك؛ بل فند بالحجة جميع الشبهات والدعاوى المُضللة التي كان يشيعها «المتوكل» للقيام بتلك الجرائم، وقال مخاطباً إياه: «لو كانوا كفار لما جازت ذبائحهم، وأنتم تجيزونها، ولا نكاح نسائهم، وأنتم تبيحون ذلك، ولا دخول المساجد ولا البيت الحرام، وقد صليتم معهم، وأديتم فريضة الحج بجوارهم».
ارتفعت وتيرة مُعارضي «المتوكل» وحججهم الدامغة، إلا أنه لم يتراجع عن فتاويه؛ بل جاء بمبررات دينية جديدة تؤكد منهجه، وتحول «الشوافع» من كفار إلى منافقين، وهم حد وصفه: «لا يمتثلون لأحكام الشرع إلا كرهاً وخوفاً من صولة الإمام بجنده أو بعض جنده»، وصار أصل الجهاد عنده قتالهم، واستباحة دماؤهم وأموالهم.
بدأ في أواخر العام «1073هـ» الاحتفال بـ «يوم الغدير» لأول مرة في اليمن، أكد ذلك المؤرخ يحيى بن الحسين ـ ابن أخ «المتوكل» ـ في كتابه «بهجة الزمن»، وعلق عليه، بـ «أن من سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»، وفي ذلك قال «أبو طالب»: «والساعي فيه مولانا أحمد بن الحسن، بمشاورة الإمام واستحسانه الرأي، وكان ابتداء هذا الشعور بحبور.. وقام بذلك للشيعة الشنار، واتقدت النواصب بسلال النار».
كما اتهم المؤرخ «ابن الحسين»، قريبه يحيى بن الحسين بن «المؤيد»، بأنه أول من جاهر بسب ولعن الصحابة في اليمن، وطعن بالزيدية وأهل السنة معاً، وحذف أبواباً من مجموع الإمام زيد بن علي، وبث النسخ الناقصة بين أيدي الناس.
تولى الأمير «ابن المؤيد» حينها احدى المناصب، فبالغ العلامة صالح المقبلي في نصح «المتوكل» حتى عزله، إلا أن ذلك العزل لم يستمر طويلاً، إذا سرعان ما تولى منصب آخر، وصار لهذا المُتشيع أنصار كُثر، وما الحضور «الإثنى عشري» في الموروث «الزيدي» إلا امتداد لذلك.
كان الشعراء أحمد المسوري، والحسن الَهَبل، وأحمد المخلافي من أبرز أنصار «ابن المؤيد»، أطلق الأول لقب «سيوف الإسلام» على أبناء الأئمة، وكذلك لقب «سيدي» على العلويين، فيما سمى الثالث نفسه بـ «كلب آل البيت»، أما الشاعر «الَهَبل» فله من المثالب الكثير، ووصل به التعصب أن سب علي بن ابي طالب؛ لأنه حد وصفه تارك حقه.
حفزَّ هؤلاء المتعصبون الأمير « ابن المؤيد» على الدعوة لنفسه «1079هـ»، ومضوا يرغبوه بالخروج على عمه، ويوعدوه بالنصر، ويمنوه أن قبيلتي «خولان، والحيمة» ستلتفان حوله، وخاطبه «الَهَبل» مُحفزاً:
قم بنا يا بن المصطفى
نطلب الحق؛ فقد آن القيام
يهود اليمن نالهم من ظلم «المتوكل» نصيب، نكل بهم أشدَّ تنكيل، وأشيع أنه أفتى بنهب ممتلكاتهم «1077هـ»؛ كي لا يبيعوها ويذهبوا إلى فلسطين، وفي ذلك قال صاحب «طبق الحلوى»: «وتنوقل هذا الكلام، حتى اتصل بكوكبان وشبام، فهتكوا حريم من عندهم من اليهود، وأخذوا ما معهم من الأثاث والحلى والنقود، ولما صرخ الصارخ بشبام، أن هذا عن أمر الإمام، بادر أهل حاز والغرزة إلى نهب من عندهم».
رغم إنكار «المتوكل» لتلك الفتوى في حينه، إلا أنه لم ينتصر لليهود المنهوبين، بل ضاعف من عقوبتهم، بذريعة ادعاء أحدهم الزعامة، ورغم قتله إياه، وهنا أضاف صاحب «طبق الحلوى»: «وعند ذلك ضاعف الإمام الآداب على اليهود، وأسقط عمائمهم عن الرؤوس، ورفع كبارهم إلى الحبوس»، ليرفع عنهم تلك العقوبات بعد ثلاث سنوات، بعد أن أسلم بعضهم، ومات أغلبهم من الجوع.
في بداية العام «1083هـ» وصل إلى «المتوكل» بعض مشايخ جبل صبر، شاكين ظلم عاملهم راجح الأنسي، أعرض عنهم، وانتصر للعامل الظالم، ليقوموا فور عودتهم بثورة كبرى، صورها صاحب «طبق الحلوى» بقوله: «تحزبوا على الخلاف، وساعدهم على ذلك أهل الحجرية الأجلاف، فكفوا يد العامل، وأشرعوا أسنة العوامل، وحذفوا حي على خير العمل من الأذان، وقتلوا من العسكر ثلثه، فوجه إليهم الإمام السيد المقدام صالح عقبات، واعتنى محمد بن أحمد بن الحسن في إطفاء شرارهم، وقمع أشرارهم».
استقر الأمير الشاب محمد بن أحمد بن الحسن بعد إخماده تلك الثورة في قلعة «المنصورة ـ الصلو» حاكماً على الحجرية، ليتمرد عليه سكانها منتصف العام «1085هـ»، قتلوا بعض عبيده، وامتدت أيديهم في العام التالي لقتل رسول الإمام، توجه الأمير أحمد بن الحسن بجيش جرار داعماً لولده، فـ «أقعد، وأقام، وشرَّد بهم من خلف وأمام»، كما قال «أبو طالب».
زادت التمردات في «اليمن الأسفل» على «المتوكل»، فما كان منه إلا بالغ في القتل وإشاعة الخراب، وأتبع فتاويه السابقة بمطالب ضريبية استنفذت أموال ومدخرات الرعية، وبمسميات مُختلفة ما أنزل الله بها من سلطان، عددها صاحب «طبق الحلوى» بقوله: «تضاعف على أهل اليمن الأسفل، مطالب غير الزكاة، والعطرة، والكفارة، مثل مطلب الصلاة على المصلي، ومطلب التنباك، ومطلب الربح، ومطلب الرصاص والبارود، ومطلب سفرة الوالي، ومطلب العيد».
حدثت حينها بضوران أكثر من «30» هزة أرضية، ارتعب منها الناس، وضنوا قُرب قيام الساعة، وعدَّها كثيرون انتقام رباني للظلم الذي طال «الشوافع»، بل أن أحد أبناء الإمام اعتقد ذلك، وهو ما أكده «أبو طالب» بقوله: «وظن مولانا محمد بن المتوكل أن سببها ما يؤخذ من أهل اليمن الأسفل زائد على الزكاة».
عانت تعز في ظل حكم «المتوكل» كثيراَ، شاع فيها الظلم والخراب، وعنها قال فيصل سعيد فارع: «ولم يشفع لمدينة تعز إطلاقاً أنها مقر عامل الإمام، فتكون أفضل من سواها في المنطقة؛ بل تقلصت واختفت فيها كثير من مظاهر المدينة ومؤسساتها، ولم يرد أنه تم ترميم مبنى حكومي، مثل المدارس والمساجد والسماسر، أو أي مرافق أخرى، وعم الركود جميع مظاهر الحياة، فيما عدا انتقال السلطة من حاكم جائر إلى خليفة أشد جوراً».
بالتزامن مع المرض الأخير لـ «المتوكل» بداية العام «1087هـ»، أعلن الأمير علي بن أحمد بن القاسم من صعدة نفسه إماماً، وتلقب بـ «المنصور»، مُستبقاً أبناء عمومته التواقين للحكم، والمترقبين لوفاة الإمام، ناصرته قبائل «سحار، وآل عمار، ورازح، وسفيان»، فيما أوكل «المتوكل» للأمير أحمد بن الحسن مهمة القضاء عليه، قضى ملك الموت على الإمام، فانشغل الأمير بخلافته.
بوفاة «المتوكل» إسماعيل منتصف العام «1087هـ»، عن «66» عاماً، دخلت «الدولة القاسمية» نفقاً مُظلماً، عمَّت الفوضى البلاد، وتفاقمت صراعات الأخوة الأعداء، اختلفوا، وتقاتلوا، وتحالفوا، وانحصر جنونهم شمالاً، والأسوأ من ذلك، أن تصرفات «المتوكل» الرعناء صارت سلوكاً مُريعاً لازم غالبية الأئمة المُستبدين من بعده.