المغترب الذي عاد إلى صنعاء!
الخميس, 17 سبتمبر, 2020 - 05:18 مساءً
ما زلت أتذكر تلك اللحظة التي أرسلت لك فيها صورة من منفذ شرورة.. كانت تغمرني فرحة هائلة وأنا أخرج من المنفذ.. كنت أتحلل من غربة أثقلت كاهل كل مغترب بسبب الكساد في سوق العمل، ورسوم الإقامة، ومكتب العمل، والأفواه المنتظرة في اليمن لما يأتي به آخر الشهر..
كنت أنفذ بجلدي من جزء كبير من الضغوط والالتزامات داخل المملكة، رغم ما ينتظرني من بطالة خارجها، بعد أن نهش وباء كورونا ما تبقى من آمال بتغير الحال.
كان قراري هذه المرة هو الخروج بلا عودة. وكم كانت سعادتي وأنا متوجه من مأرب إلى صنعاء عبر طريق البيضاء، لولا الصدمات المتوالية عقب غربة لسنوات!!..
كانت أول صدمة؛ عندما رأيت أن الطريق قد تحول إلى طريق ترابية بسبب تجريف السيول، نظرت الى تلك الحفر والنتوءات والمطبات، وكأني أسمعها وهي تقول لي: إن الله لا يحب الفرحين.
كان خوف الحوادث، في طريق لم يعد مؤهلا لمرور الحيوانات، قد قضى على فرحتي..!!
ووصلت إلى صنعاء، بعد عناء في السفر وكئآبة في المنظر..!!
في أول تجول لي في شوارع صنعاء، بعد أيام من وصولي، أصابني الذهول من كميات القمامة المتكدسة على الأرصفة! صعقت من هول الحُفر، وانزياح الإسفلت في كل شارع مررت فيه؛ لا أحد يدري هل السيول والأمطار تفعل كل هذ؟!
وكأن كل شيء في اليمن، بشوارعها وخدماتها، يعود الى ما قبل ثورة ٢٦ سبتمبر (1962)، فيما عدا تلك البنايات الفارهة للنافذين والأغنياء من الحوثيين..!!
كل هذا، ومظاهر حمل السلاح منتشرة في كل أرجاء صنعاء، كأنه أهم الطقوس اليومية التي لابد منها..!!
في وجوه الناس؛ نلمح اليأس والعجز والإرهاق؛ أنهكت الأحداث الناس، وتمكن اليأس من أن تأتي حلول خارجية أو داخلية!.. وجوه تلمح فيها ابتسامة صبر شاحبة، وتخفي خلفها ألف دمعة وألم..!
وجدت الفساد في أبهى صورة، وهو يستشري مثل الطاعون في كل مفاصل الدولة، التي لم تعد دولة..!
أدركت معنى أن يكون لديك ظهر قوي، أو متحوّث همجي، لدى جماعة الحوثي، كأمر هو أهم بكثير من تلك الشهادات التي ناضلت وجاهدت من أجلها زمنا طويلا، فهي لا تعني شيئا بالنسبة لهم..!
رأيت التاجر وهو يرفع الأسعار كل يوم، لترتفع معها رقاب الناس إلى حبل المشنقة، ولا أحد يأبه لصراخ الفقراء والمساكين..!
لاحظت الفجوة وهي تتسع كل يوم، والمسافات تبتعد بين طبقات المجتمع، ليصبح الغني أكثر غنىً والفقير أكثر فقرا..!
المساجد، التي كانت متنفس للنفوس المتعبة، يعبد فيها الله؛ صارت مراكز للدجل والشعوذة والحض على الكراهية..!
في خطبة الجمعة، الأولى لي في اليمن، صعد المنبر شخص يحمل على كتفه بندقية، ملامحه ليس فيها السكينة أو الأمان، وكأنه متعطش للدماء وليس لذكر الله!..
بدأ الخطبة بالوعد والوعيد، وسرد الخرافات التي لا تدخل العقول..!! كنت أتساءل في نفسي: هل يُصدّق نفسه أولاً، حتى يتوقع أن يُصدّقه المصلون..!
هل أضحك أم أبكي، وهو يردد- بصوت هادر: "أتدرون لماذا طبّعت الإمارات مع اسرائيل؟ إنه الخوف من أنصار الله واللجان الشعبية"..!
هذا بخلاف السب والقدح واللعن في أعراض "يزيد"، وأصحاب "يزيد" وعصر "يزيد"..!!
يا الله، أإلى هذا الحد وصل الاستخفاف بعقول الناس..!! وعندما انتهى من خطبة اللعن والدجل، صرخ الناس في أنحاء المسجد، بصرخة الموت..!!
قلت في نفسي حينها: اللعنة عليكم، والموت لكم أيها اليمنيون، ما دمتم تؤمنون على كلامهم.
أدركت مقولة قرأتها لأبن خلدون: "يتحمل المظلوم ثلثي عقاب الظالم، لأنه سكت على ظلمه".
العجيب؛ كيف استطاعت تلك العصابة أن تدجن عقول الناس بهذه الطريقة وبهذه السرعة؟! أفكار الناس عادت إلى الخلف 1400 عام؛ أفكار كلها عدائية، انتقامية، تبحث عن ثأر الحسين في اليمن!..
وكأن الحسين قُتل على أيدي أصحاب المحلات التجارية، أو بأيدي الباعة المتجولين، لتأخذ الدية منهم كل يوم بشكل أتاوات جديدة، وضرائب مهولة، ومجهود حربي من كل أفراد هذا الشعب المغلوب على أمره..!
لقد نسي الشعب، هنا، عدوه الحقيقي، وذهب يطلب ثأر الحسين! في حرب افتعلوها هم، كشماعة يعلقون عليها كل فشل وانحطاط..!!
كنت مندهشا: من أين أتت تلك القوة لعصابة كانت في كهوف "مران"؟! وفي ليلة وضحاها أصبحت تحكم شعبا بأكمله، تستولي على كل مقدراته وخيراته بكل جبروت..!!
أيقنت أن تلك القوة ليست إلا نتيجة لضعف وترهل حكومة باتت أسيرة الفنادق؛ ونتيجة جهل الشعب بحقوقه، هذا الجهل المتراكم من مئات السنين، حكمنا فيها الأئمة..!!