المحلوي.. أستاذ التنويريين الأول
الثلاثاء, 27 أبريل, 2021 - 02:49 صباحاً
لم يكن محمد عبدالله المحلوي سوى طفل لا يتجاوز عمره السبع سنوات عندما رفض أن يكون حالة مشابهة لمجتمع من المتشيعين بحب "أهل بيت خرافة الإمامة" فكان استثنائيا عن أبناء جيله المسلوب عنهم إدراكهم بواحدية انسانيتهم مع غيرهم ممن أطلقوا على أنفسهم اسم "السادة ـ الأشراف" منذ الصغر.
كان الإماميون يسلبون وعيهم باكرا خوفا من أن يتمردوا كبارا من خلال إخراجهم في سن الطفولة من المدارس التركية ـ الحديثة في حينه ـ ولكثرة تحريض الاماميين ضد تعليمها الشامل أصبح مجرد الدخول فيها نوعا من العار يوجب على الأهل معاقبة ابنهم عليه ونقله إلى معلامات الإمامة المظلمة، والتي يتمرغ في ترابها الطالب كل صباح وهو يخوض فيه معارك دامية مع مختلف الحشرات.
كانت المعلامات تعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة قبل أن يجرعوهم خرافات "مذهب العائلة الإمامية" لعدة سنوات يتخرج منها فقيها متفننا في إجادة أساليب الإغواء لمن هو أصغر منه، في سبيل تعميم وجوب الطاعة وتجريم مسببات الاستفهامات المؤدية إلى الاعتراض والعصيان، أو طلب المساواة المجتمعية وهو ما رفضه ـ الذهاب إلى المعلامة ـ الأستاذ المحلوي رغم الكثير والكثير جدا من العناء والضرب والقسوة، مقابل إصراره وعناده الشديدين على مواصلة تعليمة في تلك المدارس بتجلد الطامح المريد، حتى تقبلت أسرته الأمر على مضض وتركته ينهل في مختلف العلوم الحديثة التي لم تكن متوفرة في المعلامات.
لم يكتف الأستاذ المحلوي بمناهج المدرسة فكان يقرأ كل ما يصل الى يده عبر أصدقائه الذين تعرف عليهم من خلال جلوسه مع الأتراك وأولادهم وغيرهم من الجنسيات الأخرى.
وفي حضوره كانت تثار في مجالسهم نقاشات سياسية، وثقافية، وعلمية، واجتماعية، فلاحظ الطالب الذي أصبح بعد سنوات من التعلم والاطلاع شابا كيف يتناول هؤلاء القادة أحاديثهم اللاذعة في نقد حكم السلطان عبدالحميد، ومختلف سياسات الدولة من ظلم ومحسوبيات وفوضى، وعن ما يرونه سوء تصرف، وكان مجرد التلميح لمثل هذه الأحاديث عن الإمام محرم قد يعاقب فاعله بالقتل، فازدادت معارف الاستاذ المحلوي وصقلت مهاراته في أساليب النقد بقدر اكتسب خبره في قراءة الواقع وإبعاد السياسة وتهويلات الحكام.
كان قد درس القرآن الكريم، وكان منفتحا ومثقفا واعيا بما يدور في أنحاء العالم، ودرس الكتب السماوية الاخرى "التوراة والإنجيل" في صنعاء على يد صديقه الحاخام اليهودي يحيى الأبيض، وتوسعت مداركه فكان التنويري الأول بلا منازع.
خرج المحلوي من بوتقة أحاديث صالون الحلاقة مع أصدقائه البشوات، ومن مجالسهم الخاصة كمجلس مدير البرق، إلى حواري وسماسر ودواوين وأزقة ومساجد وشعاب صنعاء منذ مطلع عشرينيات القرن المنصرم العشرين ليؤدي رسالته المعظمة، رسالة التنوير والتوعية ـ بقلب الأب الكبير الذي يحنو في تعليم أبنائه ويخشى أن ينفرهم بسوء فهم ناتج عن قسوة.
كان الأستاذ المحلوي يجيد استغلال اللحظات التي يقذف بأفكاره العجيبة كمضاد حيوي ـ على نقيض أفكار الإمامة كالرصاص القاتل ـ من خلالها، وكان في نزهة مع رفاقه ذات يوم عندما سال أحدهم عن البلاء "أعرض هو أم جوهر" فأجابوا جميعا أنه عرض، فقال المحلوي مستغلا اللحظة "أنا اخالفكم فالبلاء جوهر". قالوا: ما دليلك..؟ وأين هو البلاء.! ـ وكان الإمام يحيى قاعدا في مجلسه اليومي لمواجهة الناس بمقام قصره ـ فأشار المحلوي نحو الإمام وقال "ذلك هو البلاء، ولو كان البلاء تمثل في شخص لكان الإمام". ثم خاطبهم: كل واحد يتخيل كيف سيكون..؟ فردوا جميعا بصفات الإمام يحيى من حكم بالاستبداد وافقار للشعب واستغلال للمؤن حتى تغلوا الاسعار وعن بغض العقلاء له.
كانت أساليب المحلوي التنويرية تحدث تذمرا أو تصيب شتاتا في الفكر حتى يتمكن من ضبط ما احدث بتساؤلاته بالفكر السليم، واستمر على هذا المنوال يختبر ويعرف من يصلح لنشر الوعي ومن سيكون ناقلا للأخبار إلى الكهنوت عدة سنوات، حتى تمكن من تشكيل مجموعات متفاهمة في الوعي والادراك، ولم يكن يهمه أكثر من أحداث رفض عقلي لما يراه من خرافات استغلت شعبا بأكمله وبما يملك، كما صنع مع أقرب رفاقه لاحقا العزي صالح الذي يقول "كنت نافرا من المحلوي لما نسمع من الشائعات ضده إذ يقولون إنه ناصبي ويبغض أهل البيت ويبغض الإمام وناس يكفرونه وآخرون يلعنونه".
وكان العزي غارقا في التشيع إلى درجة أنه كان يرى الإمام فتذرف عيناه الدمع محبة له، وقد لاحظ الأستاذ المحلوي تلك العبرات فتبصر بمداواة جهل العزي من خلال الصدمات بالأسئلة وأجوبتها المفاجئة أثناء الحديث مما أدخل الشك إلى قلبه قبل أن يصارحه بحقيقة الوضع، وما أذكى المحلوي عندما استخدم أسلوبا مبتكرا في ترسيخ الوعي الفكري، استطاع من خلاله قلب موازين الفكر بعد أن كانت صخور صنعاء متشيعة كما شبه ذلك الأستاذ الزبيري لاحقا، فأوجد فيها نواة لرفض الكهنوت وها هو العزي اصبح من أعظم المحاربين لتلك الشطحات السلالية حتى وفاته رغم قساوة المعاناة التي مربها من بعد أستاذه ورفيقه.
لقد ثبت الأستاذ المحلوي ورفاقه الأحرار في سرد نقاشاتهم أمام أبناء صنعاء بغرض توعيتهم رغم سخرية وجهالة المحيطين بهم، وتحملوا الشتائم والاشارات بالتهم المخجلة في مجتمع لفرط جهالته تيسر تصديقه لما يقوله الاماميين إلى درجة النفور من الأحرار عند كل ملتقى بهم.
استطاع المحلوي كنموذج صلب أن يفرض نفسه وقد تغلب على فاقته وضيق معيشته بالصبر والقناعة، متطلعا إلى كيفية نشر وإرساء معالم قضيته السامية، ومكتفيا بمدخوله من بيع "الحلوى"، صنعته التي تسمّى باسمها والتي "كان وحيدا فيها"، وبرز بفكر أنتج لاحقا معارضة وطنية عنيدة وواعية في ذات الوقت يقول عنها الدكتور عبدالعزيز المقالح إنها "ولدت في ظروف لا نظير لها في فقرها وقتامتها، وحاولت ونجحت في مغالبة المعوقات وتحدي الاخطار وكان لمؤسسيها العظام فضل الريادة".
كانت نقاشات الأحرار بإدارة معلمهم وملهمهم المحلوي، تدور بإثارة المواضيع الثقافية وتناول أخبار العالم، والتلميح حول السياسة رغم التهكم والسخرية التي يتلقونها من المجتمع، لم يتأثر المحلوي بما كان يقول الناس فيه، ويا لشجاعته وهو يضحك ويساير أهل الجهالة بسلامة صدره، بخوضه معهم في التندر وكأن الكلام الساخر لا يعنيه.
لم يبخل الأستاذ المحلوي يوما بإسداء النصح أو بالتعليم والتوعية لكل من اكتشف أنه صاحب نية سليمة مهما كان متمسكا بخرافات الإمامة ومهما تجاهل عليه بالألفاظ، وقد كان الاستاذ المحلوي يعرف من أين يوصل وعية للإدراك، الى جانب تقنيته الشهيرة بصدمات الاسئلة وردودها المذهلة لمن أمامه.
كان يستخدم التعريض والتمثيل واستحضار ما يؤمن به ـ هدفه الجديد ـ من صفات الشخصيات المقدسة والمتوفية منذ قرون ويطابقها مع تصرفات الإمام فيخرج الشخص من الحوارات وهو يلعن بن حميد الدين بعد أن كان يقدسه، ثم يشبع حاجة صاحبه من الأفكار التحررية التي تنقض صحة نقائضها من الخرافات الإمامية.
بعد عدة سنوات اتصلوا برفاقهم التنويريين في المدن الأخرى ليكونوا شبكة وعي متآلفة فكريا ـ غير منظمة ـ واقترب حلم المحلوي، وكان في إب الشيخ حسن الدعيس وأبناء الاكوع الحوالي والإرياني وغيرهم، وفي تعز الأستاذ أحمد نعمان ورفاقه وتلامذته، وفي ذمار القاضي العيزري وطلابه.
اشتد عليهم صلف الإمام الطاغية في صنعاء بإرسال الجواسيس الى مجالسهم النقاشية، بعد أن وصل الشيخ حسن الدعيس الى صنعاء وضموا اليهم القاضي عبدالله العزب وأبناء السياغي حسين أحمد ويحيى وحمود ومحمد إضافة إلى من معهم العزي صالح وأحمد المطاع وسنين وآل السنيدار وغيرهم من التجار والعلماء والأدباء.
اختلق الطاغية يحيى حميد الدين لهم تهما كيدية لغرض سجنهم عقب هزيمته في الحرب ١٩٣٤ مع السعودية، وكانوا فعلا قد وصلوا إلى جرأة نقض خرافة "التوسل بأهل البيت" ومناقشة مواضيع مثل "هل أجر الدرس (التلاوة) يصل إلى الميت أم لا" وغيرها من المواضبع المفندة لتلك الخرافات السلالية.
زاد حنق الطاغية تجاه ما يقومون به من توعية، فسلط عليهم الأطفال بعد نشر إشاعة أن الأحرار يبغضون النبي محمدا وأهل بيته، ولكم أن تتخيلوا وضع الاستاذ المحلوي الذي تجاوز السبعين من عمره عندما يمر هو أو أحد رفاقه من شارع فيتجمع عليه الصبية جماعات متآزرة في الصياح ويشيعونه الى مسافات طويلة بزفة هزلية منشدين "لعن الله معاوية ويزيدا وشيعته، وسلام الله على علي المزكي بخاتمه". وهذا هو شعار عمائم طهران وأذنابها اليوم.
واستمر الأستاذ المحلوي ورفاقه رغم ما يعانونه من ابتزاز مقابل تركهم لما يقومون به حتى أمر الإمام المستبد في مطلع العام ١٩٣٥ بسجن الأستاذ المحلوي والعزي صالح وعبدالله العزب وأحمد المطاع وعلي الشماحي وفي اليوم الثاني أتى محمد المطاع ليراجع الامام في أمر أخيه أحمد فسجنه واكتملوا ستة بتهم متقلبة ومتجددة حتى وهم داخل السجون منها يهود درادعة واختصروا القران وأذنوا قبل دخول الوقت!
بعد عام وقد اكتشف الناس حقيقة التزييف الإمامي بفضل نشر الحقيقة من قبل الذين كانوا يسجنون بتهم أخرى وقد اوضحها لهم الأستاذ المحلوي ورفاقه، وكثرت المراجعات أطلق الإمام سراحهم مشترطا على المحلوي الخروج من صنعاء فرفض، وبعد عدة محاولات أمر الطاغية بإخراجه وقد تمكن منه المرض الذي أدى إلى استشهاده بعد عدة أيام في عام ١٩٣٦م.
وارتقى التنويري الأول شهيدا كما يقول السنيدار "وكان أول ضحايا الحرية". فيما بقيت نواته زاخرة بأزهار الوعي تتجدد وتزهر كل ما حاول كهنوتي أن يعود بعجلة التأريخ إلى الوراء.