أكتوبر.. سماوية العهد والمعهدِ
الجمعة, 14 أكتوبر, 2022 - 10:33 مساءً
لم يكن أكتوبر فلتة عارضة في قاموس الحدث اليمني المجيد، ولا تحولا شطريا أو قطريا منسلخا عن الذات اليمنية ككل، بل كان تتويجا لمخاض عسير من نضالات جسورة، وسلسلة طويلة من التضحيات التي سقط خلالها الأحرار وثرت دمائهم على امتداد المعارك الخالدة في صفحات التاريخ النابض بالعزة والكرامة والمجد، لقد شكل هذا اليوم استدارة كلية باتجاه اليمن الكبير وانحيازا تاريخيا للإرادة والمستقبل.
أكتوبر لحظة يمنية انتصرت للإنسان، باسترداد الكرامة وانتزاع الحق المقدس في الاستقلال والحرية والعدالة والمساوة وتقرير المصير، باعتبارها اللحظة الأكثر إشراقا في وجدان الجماهير اليمنية، وهي تقف إلى الجانب الصحيح من التاريخ بإعلاء مبدأ الكرامة على الإهانة والسيادة على العمالة والحرية على العبودية والاستقلال على التبعية والوحدة على الشتات والتمزق، ومغادرة مربع الاستعباد والاستبداد بكل أشكاله وأنواعه، كون هذه الحالة تتناقض مع جوهر الدين و الحياة، ناهيك عن ما يلقيه هذا الواقع من أثر مستفز لحالة الوجود الإنساني، وصاعق لذرات العقل المستنير والضمير الحي.
في هذا اليوم تأججت نار الثورة على امتداد الشطرين واشتعلت لحظة الكفاح الوطني في شمال اليمن وجنوبها لتتسع كتيار شعبي كاسح وتخرج من قمقم الهوان والإخضاع إلى نار الثورة والرفض، كمارد عنيف وسيل ثوري هادر تهاوت أمامه أنصاف الحلول، واتسعت آفاقه نضاله بحجم ما تخفيه اللحظة ويخبئه المستقبل.
تعود هذه الذكرى بالذاكرة اليمنية إلى العهد الذي امتزجت فيه روح الكفاح شمالا وجنوبا واختلطت دماء ثوار أكتوبر بدماء ثوار سبتمبر تحت راية الدفاع عن قضية واحدة، عنوانها الأبرز، عزة الوطن وكرامة المواطن، وانعتاق الإنسان اليمني شمالا وجنوبا من قبضة الاحتلال والاستبداد على السواء.
كان أكتوبر مجيدا بحق، وانبعاثه تحولا جذريا في حياة أمة تتلظى، وشعب يتجرع زمن الإهانة على امتداد قرن ونيف من غطرسة القوة ومرارة القهر وذل الاحتلال، لم يكن أكتوبر منقطع الصلة بثورة السادس والعشرين من سبتمبر، بل كان امتدادا لها متصلا بسياقها مشتبكا بجذورها منصهرا في المخاض والأهداف والأمنيات، باعتبارها هي الأخرى تعبيرا عن الرفض وتمردا على الأوضاع وإفصاحا عن واحدية الهموم وواحدية المعاناة ووواحدية المصير.
"وطار الفضاء بأجنحة النور ينساب مرة"، بفعل ضربات سبتمبر تهاوت قلاع الإمامة في الشمال وعلى طريق نضال أكتوبر تداعت حصون المحتل البريطاني في الجنوب، فكان الإنجاز الخالد والميلاد الجديد.
الجمهورية اليمنية، المنجز الذي سعت اليه الثورة في الشمال كنقيض للملكية وتقويض نهائي لمنظومة الاستبداد، بإعادة الحق السياسي والاقتصادي إلى الشعب، وكسر حالة الاحتكار والتسلط وطمس عهود الرجعية والكهنوت إلى الأبد.
والوحدة المنجز الذي سعت اليه الثورة في الجنوب كنقيض لإرث الاستعمار وواقع الفرقة وعوامل الشقاق وإنهاء عصر السلطنات والمشائخ إلى غير رجعة، وطي صفحة التخادم ضد إرادة الشعب والحيلولة دون انتزاع كرامته وتقرير مصيره بنفسه متوجة انتصارها بهزيمة أكبر قوة عسكرية في ستينات القرن الماضي
ثم ماهي الا لحظات معدودة في حساب الزمن الثوري كي تتحول الجمهورية اليمنية إلى هوية سياسية واحدة لكلا الشطرين والوحدة إلى هوية جغرافية واحدة لكلا الشطرين أيضا، لتسفر اللحظة التاريخية عن مبعث الأمل وواحدية الحلم والاتجاه، ويكتمل النقص الذي ظل يعتري الحالة الثورية ويهددها في أوج نضجها وذروة اكتمالها، باعتراف زعمائها وقادتها حين ما فتئوا يرددون لايزال إنجازا ناقصا، لايزال إنجازا ناقصا، وقد اكتمل الإنجاز يوما وعلت إرادة الثورة وأحلام الجماهير، على ما سواها من الشعور بالدونية والعجز عن ارتياد أهدافها الكبيرة، ليتعانق الحلم بالواقع وتلتقي عراقة التاريخ البعيد بأمجاد الحاضر القريب في لحظة عرس وطني وعربي نادرة.
"سل النجوم التي كنا نساريها
شوقا إلى الفجر كم بتنا نناجيها"
قبل أن تخرج فكرة الثورة إلى النور وتتخلق على شكل هموم وأسرار وتطلعات كان الحلم شاهقا وخيط الثورة ممدودا والحنين الجارف لالتقاء الشعبين قويا وملتهبا، لقد صاغوا بذلك الأنين المكتوم جواهر الحلم وفراديس الحقيقة، حتى في مهد التنادي وبداية اختبار جدوى الكفاح من عدمه، كانت مفاعيل الثورة تتشكل في الوعي القومي، وتستدعي مكانها على الخارطة اليمنية الواحدة منطلقة في شرارتها الأولى من قلب هذه المعادلة التاريخية والجغرافية لليمن أرضا وإنسانا هوية وشعبا، حاضرا ومستقبلا، ومستقرة في نهاية مخاضها ولحظة انتصارها على المعادلة نفسها كحقيقة تاريخية لا تقبل القسمة على شطر دون آخر.