ترجل كما يرحل العظماء دون أن يستأذن بالرحيل.. كان يرى الوطن أغلى من كل شيء حتى نفسه, غرة 27 من شهر شعبان 1427هجرية الساعة الرابعة عصرا التقيته لأول وهلة.
كان معي في تلك الزيارة المفاجئة رفيقي العزيز علي الحوالي، إنه صديق قديم له، سبق وأن عمل معه في لواء عمران، كان مجلسه ممتلئا بالرجال، قام لحظة دخولنا واقفاً باشاً ومرحباً, ثم مد يده ليسلم علي وصديقي، ويفسح لي بجواره، عرفني بنفسه فقال: أخوك عبدالرب الشدادي، وعرفه صديقي بي أيضا.
ولم أكن أعلم ساعتها ما هو عمله بالضبط, كان حديث المقيل غير المنظم يدور حول أوضاع البلاد والحرب والسياسة، وكانت ساعتها حروب صعدة ملتهبة.
قال أحدهم: حمدا لله على السلامة يا فندم, أجاب الرجل (الحمد لله ما همنا نستشهد في المعركة أهم شيء يخلص الوطن من الوباء الحوثي).. الرجل لا محالة كان عائدا من رحلة علاجية في الخارج، وهو قائد عسكري إذن، أصيب وهو يقود معارك صعدة ضد الجماعة الحوثية المتمردة، هكذا حدثتني نفسي لحظتها، وهو بالفعل ما استبان لاحقا خلال النقاش, كان النقاش ساخنا وله وجه ثقافي يفتش عن خبايا الحوثية وأسرار انبعاثها، كان البعض يقول: لماذا تقاتل ألوية الفرقة في صعدة في حين يدعم صالح الحوثيين سراً بالسلاح، وكلما أوشك الجيش القضاء على الحوثيين جاءت الأوامر بإيقاف الحرب؟ كانت بعض تلك الأخبار لأول مرة تمر بسمعي، وكنت انتظر مزيداً من الاستيعاب لأوجه المعركة.
تحدث العميد حينها بمداخلة مقتضبة كعادة القادة العسكريين قائلا:( الحوثية عودة جديدة للإمامة بثوب إيراني، وهي حركة طائفية منظمة تنتشر خفية وتخترق الأحزاب والمؤسسات وهدفها الإطاحة بالنظام الجمهوري، وإذا لم نقض عليها ستقضي علينا جميعا).
فوجئت أن الرجل ينظر للحوثية ببعد كبير وكأنما لديه تلسكوب مجهري. لقد أرعبني كقارئ ذلك التحليل العميق لم أسمعه من قبل حتى عند كبار الساسة.
مرت الأيام وصارت تجمعني بالرجل بعض المواقف والمناشط، وفي كل مرة يكبر في نظري وتتراءى لي اخلاقه وسجاياه كأنها عقود مرجانية نظمت بإحكام.. كريم يقصده كثير من الناس والفقراء فلا يردهم، شجاع يتظلم عنده المظلومون فينصرهم، ثقة عند الناس يأتمنونه على أشيائهم، بسيط لا يحتاج أحد للبحث عنه أو ضرب موعد معه، يفرح بزواره، ويكون أشد فرحا بالمثقفين منهم والمتعلمين، حتى أنه أقام حفلا ووليمة لبعض الزملاء الذين أكملوا درجة الماجستير يومها من جامعة صنعاء.. كان بيته مزاراً للمشائخ والضباط والمثقفين وعامة الناس يمتلأ ديوانه كل يوم ما لم يكن مسافرا.
لكن أكثر ما كان يشد انتباهي ويجعلني أصغي لعباراته السريعة أنه متشرب بحب الوطن وحب التضحية في سبيله، فلا يكاد يمر لقاء بيننا دون أن يتذكر بعض مآسي الوطن الجريح أو يتساءل عن أسباب تخلفه.
في رمضان من العام 2008م خرجنا سويا باتجاه شمال العاصمة حتى وصلنا أطراف بني حشيش، كانت الساعة الثانية ظهرا، وأصوات المدافع تدوي على بعد عدة كيلومترات، ماذا يجري هنا، إنها حرب الحوثيين في بني حشيش ضد الدولة.. كانت قصتها أن الحوثيين افتتحوا مركزا لهم في بني حشيش قبل عامين وهاهم اليوم يعلنون التمرد على الدولة شرق العاصمة، وتشتبك معهم بعض وحدات الحرس.
التفت العميد حينها إلي قائلا: كنا نقاتل الحوثيين في مران، وكدنا نقضي عليهم، لكن الرئيس يتدخل ويوقف المعارك في اللحظات الأخيرة، واليوم ينقلون المعركة إلى طوق صنعاء، إلى بني حشيش، وغدا سيعود حصار السبعين ومسرحية قاسم منصر. كنت مدركاً تماما فيما يفكر لحظتها، لقد كان موقنا بأن التراخي في التعامل مع الحوثية سوف يقود لسقوط الجمهورية وعودة الإمامة ولو بعد حين.. وهو بالطبع ما كنت أعتقده أنا أيضا فقد كتبت يومها في الملحق الثقافي لصحيفة الجمهورية مقالا بعنوان (انقذوا الجمهورية من إمامة مران) ناقشت فيه كل ما جمعت من أخبار عن حروب صعدة وازدياد قوة الحوثية وعن ظاهرة بني حشيش التي كانت أشبه بتجربة أولية لكسر حاجز الخوف من سلطة صنعاء لدى الأسر المتعصبة للإمامة والمذهب.
مرت الأيام والأعوام، وتعين العميد أركان حرب اللواء العاشر بحرف سفيان، وانقطعت أخباره عني لبعد المسافة، فقررت وبعض الزملاء زيارته في مقر عمله.
مررنا بعمران ليلاً منطلقين إلى الحرف, كان الطريق مظلما وموحشا, الحوثيون ينصبون النقاط فجأة في الخط, وأحيانا يقنصون المارة دون سبب، وأحيانا أخرى ينهبون كل ما معهم من مؤمن وينهبون السيارة ويرمون ركابها في الخط العام أو يقتادونهم أسرى.. ساعات من الرعب الشديد والظلام يلفنا حتى وصلنا قبيل الفجر, صلينا الفجر في مسجد المعسكر ثم بتنا بقية ليلتنا فقد كان العميد في مهمة عسكرية.
استيقظنا وقت الظهر فصلينا ثم التقينا العميد ورحب بنا وتغدينا سويا، وتحدثنا حديثاً ذا شجون حتى قبيل المغرب فاستأذنا بالانصراف وأذن لنا، لكنه طلب منا أن نأخذ حذرنا في طريق العودة فبعض الجبال على الطريق بين سفيان وعمران, تتمركز فيها خلايا حوثية, وتنصب في الليل بعض النقاط, كنت ألمح في وجهه علامات الضجر والسأم, أخبرنا لاحقا أحد المجندين أن بعض المواقع التابعة للواء من جهة صعدة سيطر عليها الحوثيون ونهبوا أسلحتها.
لقد بدا لي يومها أن الحوثيبن في توسع وأن إرادة ما سياسية تقف خلفهم, دارت الأيام وجاءت ثورة الشباب وانتفاضة 2011م، وكنت أحد المنضمين لتلك الاحتجاجات الشعبية التي ملأت الساحات خلال أيام, وبعد إعلان قائد الفرقة الأولى انحيازه لخيار الشعب السلمي وتعهده بحماية الثورة، انتدب العميد الشدادي لهذه المهمة، وأمن الشباب في الساحة على أنفسهم بعد مجازر مروعة فتكت ببعض زملائهم العزل قبلها.
تعرض العميد الشدادي أثناء أداء مهمته في حماية الساحة لعدة إصابات أثناء صده وقواته لبعض الهجمات المباغتة التي كانت تستهدف إخلاء الساحة وفشلت أمام صلابته وبسالته, كان أخطر تلك الإصابات التي تعرض لها إصابة معركة كنتاكي، تلك المذبحة التي قتل فيها الأمن المركزي قرابة مئة شاب، وكادت المدرعات والعربات تقتحم المخيمات لولا تصديه لها, شاءت الأيام أن نفترق ثلاثة أعوام فكل منا انشغل في واد مختلف، غير أن الأقدار جمعتنا ثانية في خندق الدفاع عن الجمهورية ومقاومة الانقلاب.
قبيل سقوط صنعاء بأيام قلائل كنت والعميد الشهيد أحمد يحيى غالب رحمه الله والعميد - حينها- محسن خصروف وولده الدكتور شادي وآخرون نقيم بعض الفعاليات الفكرية والثقافية وندعو لحضورها كبار الضباط المتقاعدين وكبار المثقفين، وكانت أحاديثها تدور حول جرائم تاريخ الإمامة ومعركتها مع الجمهورية وكيف يستهدف الحوثيون اسقاط النظام الجمهوري, كنا نفكر مليا في طريقة سحرية للحيلولة دون دخول الحوثيين إلى صنعاء التي باتوا يعسكرون على أبوابها.. كلانا كان عضوا في مجلس أمانة الاصطفاف الشعبي الذي غطت حشوده أطول شوارع صنعاء, لكننا لم نكن مطمئنين لنتائج ذلك الاحتشاد السلمي، ما لم يتبعه قرار المواجهة العسكرية للزحف الحوثي، غير أن القرار لحظتها كان مختطفا من قبل وزير الدفاع, الذي بدا أشد إخلاصا للحوثية، ويحتاج الجيش إلى إنقاذ من سلطته المشبوهة، في حين تبدو سلطة الرئيس هادي شبه محاصرة.
لقد كان الحوثيون يفكرون لحظتها بإقناع الرئيس هادي أو إرغامه على تنصيب الصماد نائبا للرئيس، هكذا كانوا يخططون! حينها تراءت لنا حيلة أخرى هي أن ننسق لمؤتمر عسكري لعدد من الضباط الوطنيين لتدارس المخرج وتخليص القوات المسلحة من يد الخائن وزير الدفاع استعدادا لحماية الجمهورية, فكرة جيدة- هكذا قال الجميع - انطلقنا لعرض الفكرة على عدد من الضباط كان العميد الشدادي حينها أحدهم، وقد أعجبته الفكرة كثيرا، لكنه أشار أن الوقت متأخر جدا، وبالفعل فما هي إلا ثلاثة أيام وتسقط صنعاء أمام الجحافل الإمامية الجديدة، ويتفوق أولئك النفر الذين حملوا هم الوطن والدفاع عنه بإنقاذ ما تبقى من المؤسسة العسكرية بعيدا عن صنعاء.
بعد سقوط صنعاء خرج البعض باتجاه مأرب والبعض بقي فيها مطاردا، وكنت أحد أولئك الذين بقي في صنعاء ظاهرا على شاشات التلفاز كل يوم مقارعا للمليشيا الحوثي، وإلى جواري العميد الشهيد أحمد الأبارة الذي كان يشد من أزري، وكان له بعض الظهور الإعلامي أيضا, ظللنا كذلك بضعة أسابيع حتى لاحقتنا أطقم المليشيا الحوثية وحاولت اعتقالنا فخرجت والشهيد إلى عدن بغية الانضمام للمقاومة هناك، لا سيما وقد خرج الرئيس ووزير دفاعه اللواء محمود الصبيحي إلى عدن وأعلنت عدن عاصمة مؤقته.
طمعنا في اللقاء بالرئيس أو وزير الدفاع، غير أن الأمور كانت شبه فوضى، والخيانة يرتسم محياها على ملامح محافظ عدن أنذاك, أيقنا تماما أن عدن ستسقط كما سقطت صنعاء، وأن الحشود البسيطة التي تحمل البنادق الآلية والكند والشرف لن تقف أمام ألة القمع الحوثية المدججة بالسلاح المتوسط والثقيل.
لم يمض أسبوع على وصولنا عدن حتى وصلت جحافل المليشيا الحوثية إلى المنصورة، وكدنا أن نقع في أيديهم الأثمة، فتسللنا عائدين إلى صنعاء وكنا مدركين أنه ونتيجة لظهورنا المستمر على الشاشات ضد المليشيا الحوثية قد بلغ بنا وأننا تحت المراقبة, وبالفعل عدنا صنعاء فلم نمكث فيها غير يوم واحد، وفي اليوم التالي جاءت الأطقم للبحث عنا أنا والشهيد الأبارة - رحمه الله- فاختفينا تلك الليلة في مكان غير معروف وبعد صلاة الفجر خرجنا متسللين صوب مأرب بملابس أشبه بملابس عمال القات.
بالكاد وصلنا مأرب فالنقاط على طول الطريق تطلب البطائق الشخصية، وتفحص الأشخاص، ومناطقهم, وصلنا مأرب بسلامة الله وكان شبح الحرب يخيم عليها ويحيط بها من كل اتجاه.
القبائل بدت منهكة والحرب مستعرة وزحف الحوثيين بآلاتهم يتقدم باتجاه المدينة، والناس يتلفتون هنا وهناك بحثا عن قائد عسكري شجاع يقود معركتهم المصيرية، في آخر معاقل الجمهورية, في اليوم الثالث من مقامنا بمأرب صدر القرار الرئاسي بتعيين اللواء الركن الشدادي قائدا للمنطقة العسكرية الثالثة, هللت الناس وكبرت واستبشرت خيرا، فهو ابن المنطقة والخبير برجالها وجنودها ومعسكراتها.
وكنت والعميد الشهيد الأبارة من أوائل من زاره وهنأه بالتعيين في ظرف حالك المغرم فيها عنوان المرحلة.. في البدء واجه مصاعب جمة كنت شاهدا عليها بصفتي مستشاره الإعلامي, كانت المعسكرات شبه فارغة، وأفضل الألوية لا يتجاوز عدد أفراده مئة أو مئتين, أما مخازن الأسلحة فلن تجد فيها سوى بعض القطع البالية والمستهلكة.
أذكر أني والعميد الشهيد الأبارة بعد أن شعرنا باقتراب الحوثيين من المدينة، زرنا القائد الشدادي ذات يوم نطلب سلاحا شخصيا، فأخذ بأيدينا وأدخلنا إلى المخازن فلم نجد فيها سوى 400 قطعة آلية مكسرة وغير قابلة للاستخدام, كانت القبائل تسيطر على السلاح الذي قدمه التحالف في الأيام الأولى لمقاومة مأرب، وكانت تنظر لمنتسبي الجيش نظرة توجس وخوف، ولهذا السبب كانت تطمع للمعسكرات وتتفيدها حينما تقترب المعركة خشية أن يصل إليها الحوثيون فيتفيدونها، وحينما تصنع ذلك تسقط المعسكرات بسهولة في يد الحوثيين وتقفل القبائل عائدة إلى الوراء.
كان هذا السلوك القبائلي يثير غضب الجنود الذين يرابطون في معسكرات المنطقة، وكان اللواء الشدادي يستاء كثيرا لمثل هذه التصرفات, ذات يوم توافدت القبائل بكثافة على مقر المنطقة قادمة من صرواح تحمل الأسلحة المتوسطة على سياراتها وأكتافها في منظر مزعج.
اقتربت من الجموع وتساءلت عن سبب التجمهر بالأسلحة المتوسطة، فقيل لي أن القبائل نهبت السلاح المتوسط من معسكر كوفل بسبب اقتراب الحوثيين منه خشية أن يستسلم الجند, دخلت المنطقة وإذا باللواء الشدادي قد جمع تلك القبائل المتهورة وأخذ منها السلاح الذي أخذته، وصار يحاضرها عن أهمية احترام الجيش والحفاظ على معسكراته ودعمها.. لقد كان يغيظه سلوك الفوضى بشكل كبير، وكان يصعب عليه ضبط تلك القبائل وتدريبها على القتال المنظم، فعمل من لحظته الأولى على فتح باب التجنيد والتدريب، وإعادة التأهيل القتالي لمجاميع المقاومة القبلية.
النفط مقابل الرواتب، كان هذا اتفاقا مبرما بين صنعاء ومأرب بعد الانقلاب وسقوط صنعاء، غير أن هذا الاتفاق لم يدم بعد تولي الشهيد الشدادي قيادة المنطقة الثالثة.
شهر ابريل من العام 2015م آخر مرتب يستلمه الجنود في المنطقة الثالثة من مالية صنعاء، عبر مصرف البنك المركزي في مأرب، شهران مرا عجافا على منتسبي المنقطة بعد تعيين اللواء الشدادي، الجنود يطالبون برواتبهم، ونثريات المعركة منعدمة، ومؤسسات مالية الشرعية لم تتخلق بعد، والدعم لا يزال قبليا، والكل ينظر للقائد منتظرا أن يأتي الحل من قبله.
أضطر اللواء الشدادي أن يستخدم علاقاته مع رجال الأعمال، واقترض يومها مبلغ مئتي مليون ريال يمني لتغطية رواتب منتسبي المنطقة، وبدأ بصرف الرواتب دون أن يعلم أحد كيف توافرت لديه المرتبات. واضطر ثانية لاقتراض مبلغ آخر ليشتري به سلاحاً ومؤنة، فقد كانت مخازن السلاح فارغة تماما والحوثيون يقتربون من المدينة وهم في عجلة أمرهم.
كنت أتردد عليه كل يوم وليلة، وأجده منشغلا ليلا ونهارا بالجبهات وأوضاعها واحتياجات المقاتلين, لم يكن يبارح مكانه في قيادة المنطقة إلا إلى الجبهات، ورغم أن عائلته تسكن في المدينة إلا أنه يبات في غرفة القيادة، فالوضع جد خطير ولا يحتمل غياب لحظة واحدة, قبل أن أفارق مأرب بأسبوعين، وتحديدا في شهر مايو 2015م كادت مأرب أن تسقط في يد الانقلابيين.
اقتربوا من المدينة من كل اتجاه وصارت أصوات المدافع والرشاشات تدوي في مسامع الناس جميعا، والقذائف تصل إلى أطراف المدينة ووسطها، في الليل تشتد المعارك حتى ترتج المدينة الصغيرة على سكانها, الأشرف الذين يقطنون جنوب المدينة وغربها كانوا قد عقدوا اتفاقا مع قبائل مأرب وقيادة المنطقة أن يحموا ما قبلهم من جهات ومداخل بما فيها المنفذ المؤدي إلى السد وصرواح.
لكنهم أو بعضهم في لحظة اقتراب المليشيا من المدينة خانوا وغدروا، أعلنوا الصرخة ورفعوا الشعار على سياراتهم وبنادقهم وبيوتهم، وفجأة تخرج العربات والأطقم بمدافعها ورشاشاتها من مزارعهم وبيوتهم لتستهدف المدينة، وقيادة المنطقة, وخلال يوم أو يومين توسعت الاشتباكات حول المدينة وأطرافها, ونصبت النقاط باسم الحوثيين على أطراف المدينة من جنوبها، وعلى بعد أمتار من سوق السلاح، كتيبة الحرس الخاص بجوار المنطقة تستعد هي الأخرى للاستسلام, أعداد من المسلحين تتقاطر إلى داخل المدينة لا أحد يعرفهم، أمن النازحين هم أم من عناصر المليشيا الحوثية، لقد باتت المدينة أسبوعاً ليس بينها وبين السقوط سوى أن تنهزم قيادة المنطقة، وهو ما كانت تؤمله المليشيا الحوثية.. كثير من الناس من سكان المدينة فروا إلى خارجها، وكنت أحد ساكنيها، وكان أطفالي يرقبون الموقف بتخوف ويتساءلون إلى أين يا أبتاه نذهب إن وصل الحوثيون إلى مأرب؟
كنت أهدى من روعهم وأؤكد لهم أنهم لن يصلوا ما دام اللواء الشدادي قائد المنطقة, بالفعل كان حدسي يحدثني بانكسارهم أمام إرادة اللواء الشدادي وعزيمة وإباء مأرب وأهلها, في ظرف ساعات حزمة من الإجراءات المشددة قام بها القائد الشجاع، مع جرعة الصبر واليقين والعمل الدؤوب وزرع الروح المعنوية لدى المقاتلين، وما هي إلا أيام واندحرت المليشيا لتعود إلى حيث كانت، وتتخلص مأرب من ثلة الخونة والمندسين.
إنها حكمة القائد ورباطة جأشه وقوة عزيمته، وقدرته على قيادة المعركة في أحلك الظروف، بل وبعث معنويات النصر في لحظات الكرب والشدة، من خلال التواجد في مقدمة الصفوف، وهي صفات قلما نجدها في قائد مثل اللواء الشهيد عبدالرب الشدادي.
لم تكن حينها قوات التحالف قد دخلت مأرب، والدعم العسكري والقتالي كان لا يزال منحصرا على القبائل. إنها الأيام الأولى للمقاومة، لقد كان ثمة توجس كان يرتاب التحالف تجاه بقايا الجيش القديم لحظتها، فلم تثبت أي وحدة عسكرية كفاءتها ومصداقيتها بعد في مواجهة الانقلابيين ومليشيا الحوثي.
كنت ألمح في وجه اللواء الشدادي لحظتها بعض الاكتئاب وهو يرى مخازن السلاح في معسكرات المنطقة فارغة، وطلب مني ذات مرة أن أكتب مقالا عن أهمية دعم الجيش للحفاظ على ما تبقى من الدولة، وأنه لا يمكن للقبائل مهما كانت أن تكون بديلا عن الجيش ومؤسساته.
كان بالفعل رجلا مؤسسيا لديه هم واحد هو بناء المؤسسة العسكرية على أسس وطنية محضة، وكنت غالبا ما أسمعه يحدث القادة العسكريين ويحثهم على تجنيب الجيش أية ولاءات غير وطنية.. غادرت مأرب وأنا على يقين تام أن النصر حليف الشرعية دام اللواء الشدادي على رأس المنطقة الثالثة، وما هي إلا أسابيع معدودة حتى تحررت مأرب وصارت مأوى لكل النازحين وقيادة متقدمة للشرعية مدنية وعسكرية.
كان اللواء الشدادي مؤقنا بأن الانقلابيين ومليشياتهم سيندحرون من مأرب صاغرين، لكنه كان يرى أن التحدي الأكبر هي صرواح وهيلان، ولطالما حاول جاهدا تطهير جبل هيلان ليسهل بعده الوصول إلى صرواح، وبالفعل تم له ذلك وتحرر جبل هيلان وأجزاء كبيرة من صرواح، وبدأت قبائل خولان تتوافد على مأرب لتعلن انضمامها، حتى أيقن الانقلابيون أنه ليس بعد صرواح إلا صنعاء, كما أنه كان عازما على كسر أسطورة صرواح والعبور من خولان إلى صنعاء، ليعلن بنفسه زوال الانقلاب وعودة السلطة الشرعية، وكاد أن يتم له ذلك لولا أعين الغدر والخيانة التي لم يرق لها أن ترى الوطن خاليا من المليشيا آمناً ومستقراً.
سقط العملاق الوطني الكبير شهيدا في 7 من أكتوبر من العام 2016م، ليلحق بركب السبتمبريين والأكتوبريين الأبطال, الذي افتتحوا عصر الجمهورية الأولى كما افتتح شهيدنا البطل عصر الجمهورية الثانية، فرحمة الله تغشاه في الملأ الأعلى إلى يوم يبعثون.