صحفي يمني
استبداد دولة.. وعُنصرية مذهب
الاربعاء, 31 أكتوبر, 2018 - 03:51 مساءً
لـ «الهادي» يحيى بن الحسين، عشرات من الكتب والفتاوى الدينية، وهي بِمُجملها مَوروث ضخم، أسس من خلاله لمذهب ديني جديد، غلّفه بالسياسة، ولغمه بالعُنصرية، وانحرف به كثيراً عن المذهب «الزيدي» الأم، جعل الإمامة فيه موازية للتوحيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصرها بشقيها السياسي والديني في ذرية الحسن والحسين، وجعل لها «14» شرطاً مُلزماً، كالأهلية الجسمية، والعلمية، وغيرهما.
وكما حُصرت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، حصر «الهادي» الإمامة في ذرية محمد صلى الله عليه وسلم، رغم أن النبي الأعظم لم يعقب، وقال في ذلك: «فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك في ولد إبراهيم صلى الله عليه، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله، فأفضت النبوة إليه، وختم الله الأنبياء به».
وتأكيداً لذلك، استدل «الهادي» بعدد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فسرها حسب هواه، وقال أن ورثة الكتاب في قوله تعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا»، هم: «محمد، وعلي، والحسن، والحسين، ومن أولدوه من الأخيار»، وأكد في موضع آخر: «وتثبت الإمامة للإمام، وتجب له من الأنام فيمن كان من أولئك ـ أي من البطنيين ـ فقد حكم الله له بذلك، رضي الخلق أم سخطوا».
«الهادوية» كمذهب لا تتعايش مع مُخالفيها إلا باعتبارهم تبعاً، بل وتكفرهم ما داموا لا يخضعون لرؤيتها وتفسيرها الديني للحياة، وحينما وجد «الهادي» تخاذلاً ورفضاً من قبل بعض القبائل اليمنية لدولته الدينية، ومذهبه الإقصائي، كفرهم بالجُملة، وأعلن الجهاد عليهم، وقال فيهم:
يا أمة الكفر الذين تجملوا
بالصغر منهم طاعة الشيطان
رفضوا الهدى والحق ثم تعلقوا
وتمسكوا بالظلم والعدوان
وعصوا بكفرهم الإله فأصبحوا
مُتقلدين سلاسل النيران
الأسوأ من ذلك، إجازته لأبناء القبائل المناصرين له قتل ونهب وسلب أموال المعارضين لدولته، المُخالفين لمذهبه، بحجة أنهم «كفارُ تأويل»، وهي الفتوى التي جاءت متماهية وطبيعة تلك القبائل المجبولة على الحروب، والمُعتاشة على الفيد، والمُنهكة بشظف العيش، وقسوة الجغرافيا.
«كفار التأويل» في مذهب «الهادي»: هم المخالفون لتفسيره للنصوص الدينية، التي هي باعتقاده مُلزمة بولاية «آل البيت»، على اعتبار أنهم الركن الثاني في التشريع، مُستدلاً بالحديث النبوي الذي ضعفه كثيرون: «تركت فيكم من إن تمسكتم به لن تظلوا بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي»، وهو المدخل الذي تسلل به ومن خلاله للتحكم بمصائر الناس، وبموجبه صار كل من يخالفه «كافر تأويل»، مُستباح الدم والمال.
ويؤكد ذلك قوله:
وقلت ألا احقنـوا مني دماكم
وإلا تحقنـوها لا أبالي
ولست بمسـرع في ذاك حتى
اذا ما كفـر كافركم بدا لي
وحلَّت لي دماكم بحقٍ
وإخراب السوافل والعوالي
وقطع الزرع واستوجبتموه
بما قد كان حالاً بعد حالي
الأدهى والأمر من ذلك، أنه حكم على أبي بكر وعمر بالردة، وقال أنهما يستحقان حكم الإعدام، وزاد على ذلك بأن كفر جموع المسلمين الذين لا يعتقدون تقديم علي عليهما، وقال في مقدمة كتابه «الأحكام»: «أن ولاية أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام واجبة على جميع المسلمين، فرض من الله رب العالمين، لا ينجو أحد من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان حتى يعتقد ذلك بأيقن الإيقان».
وأضاف: «فمن أنكر أنَّ يكون علياً أولى الناس بمقام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد رد كتاب الله ذي الجلال والطول، وأبطل قول رب العالمين.. وأكذب رسول الله في قوله، وأبطل ما حكم به أمير المؤمنين، فلا بد أن يكون من كذب بهذين المعنيين في دين الله فاجراً، وعند جميع المسلمين كافراً».
معروف أن علي بن أبي طالب لم يُكفر الخارجين عليه، وأنه طلب من أصحابه حال قتالهم بـ «أن لا يجهزوا على جرحاهم، ولا يتبعوا مدبريهم، ولا يغنموا أموالهم»، مؤسساً بذلك لتشريع أجازه الجميع، إلا أن «الهادي» ـ من يدعي أنه حفيده ـ خالفه، وأجاز هدم منازل معارضيه، وحرق وإتلاف مزارعهم، وسبي أموالهم، في قتال أو في غير قتال.
بلغه ذات نهار أن دواب «المهاذر» بموضع يقال له «أفقين»، ومعها جماعة منهم، فما كان منه إلا أن وجه من فوره بالغارة عليهم، وذكر «كاتب سيرته» أن العساكر «أغاروا على البلد، وأخذوا ما كان فيها من الإبل، والخيل، والعبيد، والغنم، والحمير، وانصرفوا إلى الهادي بما غَنموا».
أجاز «الهادي» أيضاً سبي أولاد حديثي الإسلام، الذين أسلم أباءهم وقد بلغوا الحلم، وقال في ذلك: «لو أن رجلاً من أهل دار الحرب أسلم وهاجر الى دار الإسلام، ثم ظهر على تلك الدار التي فيها ولده، كان كلما ولد له لم يكن بلغ في وقت إسلام أبيه مسلماً تابعاً لأبيه لا غنيمة للمسلمين فيه، ومن كان منهم بالغاً في وقت إسلام أبيهم كان غنيمة للمسلمين».
المفارقة العجيبة، أنَّ التكفير «الهادوي» طال أقرب المذاهب إليه، «الاثنى
صفحات من التاريخ المنسي, [??.??.?? ??:??]
عشرية»، رغم اتفاقه معهم في كثير من المسائل، هاجمهم في أحد كتبه، ونُقل عنه قوله: «هذه الفـرقة شرذمة مخالفة للحق في كل المعاني، في الكتاب والسنة، هذه الإماميـة حزب الشيطان، الرافضين للحق والمحقين».
كما أفتى بإبطال شهادة من لم يقاتل معه من أنصاره، وحكم عليه بالنفاق الأكبر، وأنه ملعون، ومعاند، ومحارب لله، وقال فيه: «وجب على الإمام إبعاده وإقصاؤه، وإبطال شهادته، وإزاحة عدالته، وطرح اسمه من مقسم الفيء، ووجب على المسلمين منابذته في العداوة، والاستخفاف به، والاستهانة بكل أمره..».
مؤمنون وكفار، هكذا أصبح اليمنيون في ظل «الدولة الهادوية»، وصار هذا التقسيم بادياً بوضوح في تصرفات وأقوال الإمام المؤسس، ولا أدل من مراسلته للدعام بن إبراهيم قبل إحدى المعارك، وقوله: «لا تقتتل العرب فيما بيننا وابرز لي، ويوقف الناس حتى أقاتلك، فإن قتلتني استرحت مني، وعملت ما تريد، وإن قتلتك استراح منك أهل الإسلام».
ذات التصرف كرره أيضاً مع إبراهيم بن خلف أحد أمراء «بني طريف»، حيث راسله قائلاً: «عـلام يقتتل الناس ويلك بيني وبينـك، ابرز إلي، فإن ظفـرت بي أرحت مني الكافـرين، وإن ظفـرت بك أرحت منك المـؤمنين».
وفي إحدى معاركه مع «البكيليين»، نقل «كاتب سيرته» عنه تفاصيل أسطورية، وبأن الدعام التقاه بـ «100» فارس، و«1,000» راجل، ولم يكن مع «الهادي» إلا سبعة من الفرسان، واجههم جميعاً، ولم يتزحزح من مكانه، وقال فيهم: «والله محمود ما دخل قلبي منهم رعب، ولا اعتددت بهم، وكيف أعتدُّ بهم وأنا أعلم أن الله معي، فإن قُتلت فإلى الجنة، وإن قَتلت منهم واحداً صار إلى النار»، وكان في تلك المعركة رجل مقبلاً يرميه بالحجارة، فقال «الهادي» لرجل من أصحابه: «خذ هذا السهم فارمي به هذا الكافر».
وتعدى ذلك التقسيم من هم على قيد الحياة، إلى من قضوا نحبهم، وهلكوا في تلك الحروب العبثية، وفي ذلك قال «الهادي» في كتابه «الأحكام»: «حتى سمينـا من قتله الظالمـون منا شهيـداً، وحكمنا له بالوعد الذي وعد الله الشهـداء، وسمينا من قتلنا نحن من الظلمة كـافراً مُعتـدياً، وحكمنـا عليه باستحقاق الوعيـد من العلي الأعلى».
كان لـ «الهادي» أنصار يمنيون كُثر، خاض بهم حروبه، فتنوا به، وتشيعوا لمذهبه، وضحوا بدمائهم في سبيل انتصار دولته، نهاهم عن مناداته بـ «السيد»، وحين قال أحدهم: «جعلت فداء للسيد»، قال له: «لا تعد تقول هذا مرة أخرى، فإنما السيد هو الله، فإنما أنا عبد ذليل».
وهذا أحد شعراء خيوان، ويدعى «ابن أبي البلس»، بالغ في امتداحه، حتى جعله أحزم وأقوى من الله جل جلاله، بقوله:
لو أنَّ سيفك يوم سجدة آدم
قد كان جُرّد ما عصى إبليس
وفي المقابل، امتنع عدد من أبناء عمومته عن نصرته، آثروا الابتعاد عن السياسة ومغباتها، خوفاً من تنكيل العباسيين، اتهمهم بالخنوع، والتنازل عن حقهم، وقال فيهم:
أهل النبوة ما بالي وبالكم
وكيف حفتم على مثلي بلا سبب
حتى إذا قمت داع بالكتاب على
حذو النبي وقد أمعنت في الطلب
حالفتم الخفض واللذات وانغمدت
عني سيوفكم في ساعة التعب
ليطلب منهم في قصيدة أخرى نصرته، ممنياً إياهم بملك عظيم، قائلاً:
فلو عضدتني عصبة طالبية
لها شيم محمودة ودسائع
إذاً ملكوا الدنيا وذلَّ عدوهم
ولم يُرَ في روضاتهم وهو راتع
وبالفعل قدم بعضهم ـ فيما بعد ـ إلى اليمن، ليس لنصرة دولته؛ وإنما لمنازعة أحفاده في الحكم والإمامة.
أيام «الهادي» الأخيرة، كانت الأشد قسوة عليه وعلى أنصاره، انحسرت فيها دولته إلى صعدة وضواحيها، ليتوفى مُتحسراً متأثراً بجراحه «20 ذو الحجة 298هـ / 25 أغسطس 911م»، والحرب على أشدها بين مقاتليه وقبائل نجران، وقيل أنه مات مسموماً، دُفن في مسجده الشهير وهو بعد غير مكتمل البُنيان، ونُحت على ضريحه:
إذا شاهدت نور ضريح يحيى
ملكت الخافقين بلا علامة
ويحيى وسلتي في كل أمر
يلم بنا إلى يوم القيامة