صحفي يمني
صرخة الحوثي
الاربعاء, 27 فبراير, 2019 - 04:46 مساءً
إذا وجد المُستشار الأمين، ووجد الحاكم الذي يستمع له، ويعمل بنصيحته، وجدت الدولة العادلة، وذلك غاية ما تدعوا له الشرائع السماوية، والفطرة الإنسانية المُسالمة، ورغم تاريخ «الإمامة الزيدية» المُوغل باسم الله في الظلم والتوحش، ثمة مرحلة تاريخية مُختلفة، صحيح أنَّه لم يسودها العدل الشامل، إلا أنها كانت إلى المُلك الدنيوي أقرب، يتحمل وزر مثالبها الحاكم لا خالقه، حقَّ أن نسميها بدولة العلامة محمد بن علي الشوكاني.
سار «المنصور» علي بن «المهدي» عباس، في السنوات الأولى من حكمه على خطى والده، ثم ما لبث ـ كما أشار المؤرخ لطف الله جحاف «كاتب سيرته» ـ أن «استرخى للمُلك، ومال إلى اللذات وحياة الترف، والإكثار من الزواج، واقتناء السرائر الحسان، والجواري الملاح، كما أكثر من بناء القصور، وزخرفتها بأنواع الزخارف، وأصناف النقوش، وتأثيثها بأفخر الرياش، وأثمن الفرش»، ويعد «دار الحجر» في وادي ظهر من أعظم انجازاته.
كانت غالبية حروب «المنصور» علي، دفاعية، فهو لم يخرج خلال مدة حكمة التي تجاوزت الـ «35» عاماً من صنعاء لغزو، بل أناب عنه في معظمها ولده الأكبر، وقائد أجناده الأمير أحمد، وتبعاً لذلك لم يعد هذا الإمام كأسلافه حاكماً باسم السماء، مُحرضاً للجهاد ضد «كفار التأويل»، أعداء المذهب وأعدائه.
ساهم ذلك التوجه الإمامي في تنامي حراك صنعاء الفكري، لتبرز في ذلك الخضم حركة رفض شيعية مناهضة له، تبناها غلاة «الزيدية»، كان لهم مساجدهم ومجالسهم الخاصة، يلوكون فيها ما يتفق وهواهم، ويشتمون هذا، ويطعنون بنسب هذا، وقد تصدى لهم العلامة محمد بن علي الشوكاني بكل ما أوتي من عقل وحكمه، تماماً كما فعل أستاذه العلامة ابن الأمير الصنعاني من قبل.
نشأ العلامة الشوكاني بصنعاء، وأخذ في طلب العلم بجميع فنونه، تفقه على مذهب الإمام زيد، وبرع فيه، وفاق أهل زمانه، وتصدر للإفتاء وهو في سن العشرين، وتحلى بمنصب الاجتهاد وهو دون الثلاثين، ولم يقيد نفسه بمذهب معين؛ بل رد على خصومه بأنَّه يقف موقفاً واحداً من جميع المذاهب، والأهم من ذلك أنَّه ساهم من خلال دروسه في نشر فكره المُعتدل، حتى صار له تلاميذ وأنصار كثر.
حارب العلامة الشوكاني التعصب المذهبي، «لما يترتب عليه من الفتن المفضية إلى سفك الدماء، وهتك الحرم، وتمزيق الأعراض، واستحلال ما هو في عصمة الشرع ما لا يخفى على عاقل»، فجرت له مع مُتعصبي «الزيدية» محن وخطوب، جعلته بعد مقولته السابقة ينتقدهم بقوله:
تشيع الأقوام في عصرنا
مُنحصر في أربع من بدع
عداوة السنة، والثلب
للأسلاف، والجمع، وترك الجُمع
وهو في الـ «35» من عمره، وأثناء تصدره للتدريس في جامع صنعاء الكبير «1208هـ / 1794م»، كتب العلامة الشوكاني رسالة أسماها: «إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي»، دافع فيها عن الصحابة رضوان الله عليهم، جراء ما يتلقونه من السب المُقذع، والتجريح الشنيع من قبل مُتعصبي «الزيدية»، الأمر الذي أثار غضب الأخيرين، شنوا هجومهم عليه، وناله من أذيتهم الكثير.
قال عنهم: «فجالوا وصالوا، وتعصبوا وتحزبوا، وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة، وكتبوا أبحاثاً من كُتب الإمامية والجارودية، وكثرت الأجوبة حتى جاوزت العشرين، وأكثرها لا يعرف صاحبه»، وأضاف: «لقد شاهدت من التعصبات في هذه الفتنة ما بهرني من الخاصة والعامة، والتي غلت مراجلها وكادت تعم أهل صنعاء، ثم تسري بعد ذلك إلى سائر الديار اليمنية، ولقد تغيرت بهجة هذه المدينة العظيمة، وتكدرت مشاربها».
توقف العلامة الشوكاني عن إلقاء دروسه أياماً، ولم يسارع بالرد على هؤلاء المُتعصبين، وما حز في نفسه كثيراً، موقف مُعتدلي «الزيدية»، ممن يؤيدونه فكراً وغايه، سيطر عليهم الخوف، والتزموا الصمت؛ حتى لا يطالهم ما طاله، فانتقدهم لموقفهم ذاك قائلاً: «ولو تكلموا بالصواب، أو نصروا من يتكلم به، أو عرَّفوا العامة إذا سألوهم الحق، وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم، لكانوا يداً واحدة على الحق، ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شيء من الفتن».
لم يكتفِ متعصبو «الزيدية» بالشتم والتجريح، وتأليب العوام؛ بل توجهوا صوب «المنصور» علي، مُبالغين في شكواهم، مُحرضين إياه على أن ينزل بغريمهم أقسى العقاب، إلا أنَّه لم يعرهم أي اهتمام، وقد صور العلامة الشوكاني ذلك المشهد قائلاً: «وعظم القضية عليه، فمنهم من يشير عليه بحبسي، ومنهم من ينتصح له في إخراجي من موطني، وهو ساكت لا يلتفت إلى شيء من ذلك، وقاية من الله، وحماية لأهل العلم، ومُدافعة عن القائمين بالحجة في عباده».
اللافت في الأمر أن موقف «المنصور» علي ـ هنا ـ مُشابه تماماً لموقف والده «المهدي» عباس، الذي وقف إلى جانب العلامة ابن الأمير الصنعاني، في فتنة مُشابهة حدثت قبل «26» عاماً، والأهم من ذلك، ومن منطلق رب ضارة نافعة، تحول العلامة الشوكاني إلى صديق مقرب لذلك الإمام، وعينه الأخير كاتباً له.
كان أول عمل قام به «المنصور» علي، عام توليه الإمامة، أن أعاد تعيين العلامة يحيى بن صالح السحولي قاضياً للقضاة، وبوفاة الأخير «1 رجب 1209هـ»، صار ذلك المنصب شاغراً، وهو المنصب الثاني من حيث الأهمية بعد منصب الإمام، وبعد أخذ ورد بينه وبين مستشاريه، لم يجد «إمام صنعاء» من هو أهل لذلك المنصب من صديقه العلامة الشوكاني.
تولى العلامة الشوكاني منصب القضاء الأكبر بعد تردد كبير، وقاده باقتدار، فأكسبته هذه الوظيفة، ووظيفته الأخرى «كاتب الإمام» نفوذاً كبيراً، كان أحد رجال الدولة الفاعلين، أدى دوره كمستشار سياسي على أكمل وجه، وكانت نصيحته الصادقة مسموعة عند ولاة الأمر وعند غيرهم.
في العام التالي لتولي العلامة الشوكاني ذلك المنصب، وامتداداً لحركة الرفض الشيعية التي سبق وأشرنا إليها، قام متعصبو «الزيدية» بمسيرة ليلة صاخبة في شوارع صنعاء، مرددين فيها لعناتهم على معاوية، ثم توجهوا غاضبين صوب منازل من كانوا يلقبون بـ «الأمويين» كـ «آل العلفي»، وبعض علماء السنة، وقذفوها بوابل من الحجارة، وجه «المنصور» علي، عساكره لصدهم، فخمدت الفتنة.
لم تتوقف الغزوات «البكيلية» خلال تلك الفترة، استمر القاضي عبدالله بن حسن العنسي بقيادة قبيلته «برط» جنوباً، وقام بسبع غزوات جنونية مُوزعة على عدة مناطق من «اليمن الأسفل».. قبيلة «خولان» هي الأخرى عاودت غزواتها «1203هـ»، وقامت بقيادة الشيخ محمد بن سعيد أبو حليقة بغزو «حبيش، وآنس، وعنس، وريمة»، وكانت نهاية ذلك الشيخ قتيلاً، وذلك بعد «17» عاماً من الطيش والتجبر.
وصف العلامة الشوكاني ذلك الوضع المؤلم بقوله: «فبالله كم من بحار دم أراقت، ومن نفوس زهقت، ومن محارم هتكت، ومن أموال أباحت، ومن قرى ومدن طاحت بها الطوائح، وصاحت عليها النوائح، بعد أن تعطلت وناحت بعرصاتها المُقفرات النوائح».
كما شنَّ هجوماً حاداً على تلك القبائل، واصفاً إياها بأشنع الصفات، ومن ضمن ما قاله: «غالبهم يستحل دماء المسلمين واموالهم، ولا يحترمها، ولا يتورع عن شيء منها، وهذا مُشاهد معلوم لكل أحد، لا ينكره جاهل، ولا غافل، ولا مقصر، ولا كامل، ففيهم من آثار الجاهلية الجهلاء، أشياء كثيرة يعرفها من تتبعها»، وأضاف: «كلهم إلا النادر الشاذ، لا يحسنون الصلاة، ولا يعرفون ما لا تصلح إلا به، ولا تتم بدونه من أذكارها، وأركانها؛ بل لا يوجد منهم من يتلو سورة الفاتحة تلاوة مجزأة إلا في أندر الأحوال».
بعد مضي ستة أعوام من مظاهرات مُتعصبي «الزيدية» الأولى، أصر أحدهم ويدعى يحيى بن محمد الحوثي ذات نهار رمضاني على الذهاب إلى الجامع الكبير، كي يجاهر بسب ولعن الصحابة، إلا أنَّ «المنصور» علي، وجه بإعادته إلى حيث كان، جامع الإمام صلاح الدين، ثار حينها أنصاره «14 رمضان 1216هـ / 20 يناير 1802م»، ومنعوا إقامة الصلاة، ورفعوا أصواتهم باللعن، وانضم إليهم من في نفسه دغل للدولة، أو متستر بالرفض، ثم اقتدى بهم سائر العامة، فخرجوا إلى الشوارع، يصرخون بلعن الأحياء والأموات، حتى صاروا ألوفاً مؤلفة.
توجهوا إلى بيوت معارضيهم من مُعتدلي «الزيدية»، خربوا، وكسروا، وأحرقوا، ونهبوا، وأفزعوا الأطفال والنساء، اجتمع «المنصور» علي، في اليوم التالي بأعوانه ومستشاريه، أشار عليه العلامة الشوكاني بحبسهم، ففعل، ومن ثبت تلبسهم بالسرقة، ضربوا وعزروا بضرب المرافع على ظهورهم، أما رؤساء تلك الفتنة، فقد أرسلوا مقيدين بالسلاسل إلى زيلع، وجزيرة كمران، وحبسوا فيهما، ونتيجة لذلك اتهم المُتعصبون الشوكاني بقتل أحد فقهائهم، وعمدوا على اغتياله وهو يدرس في الجامع الكبير.
بعد الحملة الفرنسية على مصر «1213هـ / 1798م»، سارع الانجليز باحتلال جزيرة ميون، ثم كمران، ولم يستقروا فيهما بسبب تضاريسهما الوعرة، ليعقدوا بعد ذلك اتفاقاً مع الشريف حمود بن محمد أبو مسمار «صاحب أبي عريش»، اشترطوا عليه أن لا يستخدم الفرنسيون جُزر وموانئ البحر الأحمر التابعة له، وهو ذات الطلب الذي توجهوا به بعد أربعة أعوام إلى «إمام صنعاء»، خاصة وأن ميناء المخا كان لا يزال تحت يد الأخير، ومما زاد الطين بلة، احتكار الأمريكان لتجارة البن وجميع تجارة اليمن الخارجية.
تفاقمت بعد ذلك الأزمات الاقتصادية، لترفع الصراعات الداخلية وسوء الإدارة من وتيرتها، لجأ «المنصور» علي، إلى زيادة الضرائب، وتغيير العملة، بمباركة وفتوى من بعض العلماء، بحجة أن الدولة لا تقوم إلا على ذلك، ولا تتّم إلا بما جرت به العادة من الجبايات ونحوها، فعم الغلاء، وكثر البلاء، وزادت حوادث السرقة، والسلب، والنهب، وقطع الطرق.
استاء العلامة الشوكاني من تصرف «المنصور» علي، وانتقده بقصيدة شعرية، لينجح بعد ذلك في إقناعه بإصدار مرسوم ـ حرره بيده ـ يقضي برفع المظالم عن الرعية، والاقتصار على ما حدده الشرع، وبصفته قاضي القضاة، أمر عمال الدولة بتنفيذه، إلا أنَّ الأمراء الاقطاعيين، وبطانة السوء حالوا دون ذلك، لم ييأس حينها الشوكاني؛ بل سارع في كتابة رسالة «الدواء العاجل في دفع العدو الصائل»، شخّص فيها الأدواء، ووضع الحلول الناجعة الصالحة لكل زمان ومكان.