صحفي يمني
الخروج من العتمة
الاربعاء, 27 مارس, 2019 - 03:46 مساءً
التاريخ - كما يقول «ابن خلدون» - إمتداده للحاضر ثم للمستقبل، ومن لم يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى - حد توصيف «غوته» - في العتمة، وكما أنَّ فهم الجذور التاريخية لأي ظاهرة أمر مُهم، فإنَّ عدمَ تجاوزها أمرٌ كارثي؛ بل يُشبه الدوران في حلقة مُفرغة، كما أن الإهتمام بالسياسة فكراً وعملاً، يقتضي - كما قال «هيكل» - قراءة التاريخ أولاً؛ لأن الذين لا يعلمون ما حدث قبل أن يولدوا، محكوم عليهم أن يظلوا أطفالاً طـُول أعمارهم.
ولا أنسى في بداية هذه التناولة، أن أذكر بمقولة الفيلسوف الألماني - هانريك ماركس - بـ «أنَّ التاريخَ يعيدُ نفسَه عند الأمم المـُـتخلفة، أما الأمم الواعية فهي تدرس ماضيها جيداً، وتعمل على عدم تكرار أخطائه»، وفي المقابل، يقول القائل: «نحن شعبٌ مسكين، ينسى بسرعة، ويَغْفر حتى لمن أساؤوا إليه»، تلك الميزة التي نتغنى بها، أو «الذاكرة الذُبابية» التي نتباهى بامتلاكنا إياها، تبقى مُصيبتنا الأزلية، وبها وبسببها ستبقى أخطاء من سبقونا تعيد نفسها، ولن نخرج من هذه المتاهة المـُوحشة، إلا بذاكرة حيَّة، تغفر ولا تنسى.
عَـلى مَـدى التاريخ، والآخـرون يتحكمون بِنا، من «الحبشة، إلى فَـارس، إلى الحجـاز، إلى مَصر، إلى تركيا»، تلك الخُماسية الدخيلة التي قُـدِّر لهـا أن تتـواجـد في ماضينا وحاضرنـا؛ وبفعل انقسامنا، إمـا كمُنقـذٍ، أو كـوصيٍ يتحكم بمصائـرنا.
بداية القرن الميلادي الأول، وأثناء الصراع المرير بين «الحميرين» و«الهمدانيين»، قام الأخيرون بالاستنجاد بالأحباش، وتمكنوا بفعل مساعدتهم من إخضاعِ «الحميريين، والسبئيين» لنفوذهم «127م»، وتلقبوا لبعض الوقت بـ «ملوك سبأ وذي ريدان»، ضمن الأحباش - بفعل ذلك التحالف - أملاكاً لهم في المناطق التهامية، وصاروا لاعبين رئيسيين في الصراع الدائر، تارة يساندون هذا الطرف، وتارة ذاك، ليتمكن اليمنيون وفي لحظة يقظة وطنية من طردهم.
عِنـدمـا عَجـز الرومان مُنتصف القرن الرابع الميلادي عن ترويِضنـا، سَلمُونا للأحبـاش كفـَريسة مُنهكة، لينسحب الأخيرون بعد ثلاثة عقود من تواجدهم الثاني «375م»، بعد أن تلقب أحد ملوكهم بـ «ملك أكسوم وحمير وذي ريدان وحبشت وسبأ وزيلع وتهامة»، وبعد أن وضعوا لبنات ديانـتهم المسيحية في جنوب الجزيرة العربية.
بِتَهدم «سد مأرب» مُنتصف القرن الخامس الميلادي حلَّت لعنة «مزقناهم كل مُمَزق»، استولى الثوار «المسيحيـون» على العاصمة الحمْيـرية ظفار، إلا أن الملك الحميري يوسف ذو نـواس الذي «تَـهـوُّد» نكاية بالأحباش وداعميهم، كان لهم بالمرصاد، طاردهم، واقتحم معقلهم في نجران، وارتكب مَحرقة الأخدود الذائعة الإجرام «أكتوبر 523م»، استنجد اليمني المسيحي دوس ذو ثعلبان بملك الروم «جستنيان»، فأوكل الأخير إلى حلفائه الأحباش مهمة الإنقاذ.
ابتدأ الاحتلال الحبشي الثالث لليمن عام «525م»، ليـأتي بعد «72» عاماً الملك الحميري سيف بن ذي يزن ويطردهم بمساعدة الفُرس، الذين رَغَـبهم بالاستحواذ على بلادنا كـغَـنِـيـمة، تاركـاً لهم حُكـم «اليمن الأعلى»، مُكتفياً بـحكم «اليمـن الأسفـل» سهل الانقياد، وحين تم قـتـله على يـَد ثـُلَّة من عساكرٍ له أحباش استبقاهم لخدمته، سيطر المـُـنقذون الجـُـدد – والذين كانوا في الأصل جزءً من تلك المؤامرة - بسهولة ويُسر على مـا تـبـقى من البـِلاد.
جـاء الإسـلام من الحجاز كمُنقذ، فانقدنا له، تـارة بـرسالة، وأخـرى بـالسيف، لنتلقف بعد ذاك كافة مَذاهبه، وتناقضـات فقهائـه، ومن الحجاز أيضاً قَـدِم «الهادي» يحيى بن الحسين، ليلحق به آلاف المـُـقاتلين، مُعظمهم من فارس، لتحـل الطامة الكبرى بانقياد سكان «اليمن الأعلى» لـمذهبه ودولته الدينية التي اختطفت المذهب «الزيدي»، وأفرغته من محتـواه، وحصرت الإمامة في كل من خرج من نسل «الحسن، والحسين»، شاهراً سيفه، عالماً بالكتاب والسنة، في مخالفةٍ صريحةٍ لما جاء به الإمام زيد نفسه.
أقـام «الأئمة الزيود» حُكمهم على جَماجم البَشر، وهيـاكل الشعارات الدينية الزائفة، غَـذى جُنـونـه شـوق عـارم للسُلطة والنفـوذ، ورغبـة جَامحة لاستعباد الناس، والتَحكم بمَصائرهم، وحين صـار وجودهم حقيقـة ثابتة، وأصل من أصـول الدين، عمدوا على محـو هوية اليمنيين، وطمس حضارتهم، وإثارة خلافاتهم، وتشويه قبائلهم، أنعشوا اسوأ ما فيها، وخلقوا لها المبررات العقائدية لجعل الفيد دين، والتسلط رجولة، أغـرقوا أبناءها في الجهـل والتوحش، جرعوهم المُعتقدات المسمـومة، ثم أطلقوهم على الفـريق الآخر كالذئـاب المسعورة.
رسخوا في أبناء القبائل التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، جعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِهن الحرفية، والأشغال التجارية، وأصبح الشخص الذي يُمارس التقطع، قبيلي لا تلحقه أي منقصة، فإذا ما أراد أن يأكل الخُبز الحلال، مُشتغلاً بأي مهنة، يُصبح نَاقصاً فاقـداً طُهره القبلي، وبالنفسية البدوية العنيفة، والعقلية الشيعية الحاقدة، تدفـق هـؤلاء صوب مناطق «اليمن الأسفل» و«تهامة»، قتلوا، ونهبوا، ودمروا، جهاداً في سبيل الله، وإعلاءً لراية الإمام.
تعمقت الفجوة، وتوسعت الهوة، لمُجتمعٍ هو بالأصل حافل بتناقضات صادمة، ومُتصارعة، طالما غضضنا الطرف عنها، لتُصبح مقولة «تفرق أيدي سبأ»، أسوأ حقيقة وأشنع مثال، وما الكارثة الحوثية إلا امتداد لذلك التاريخ الآثم، أطلت بارزة القسمات واضحة المعالم، برهنت لنا وبشدة أنَّ الخلاف لا حـدود له، وأنَّ القطيعـة لا نهايـة لها، وأنَّ التـوجـس من المُستقبـل له ألف سبب يبرره.
اللافت في الأمر، أن المنقذ الخارجي من «أيوبيين، ورسوليين، ومماليك، وأتراك»، تصدوا لـ «الأئمة الزيود» أكثر من مرة، دفاعاً عن «اليمن الأسفل» وسكانه، صحيح أنَّ المصلحة كانت وما زالت القاسم المُشترك لتلك الخماسية الدَخِيلة، إلا أن أبناء البلد لهم نظرة مُتباينة ومُختلفة باختلاف مفهـوم الوطنية لـدى كل فَـريق، وإذا ما عـُدنا إلى مـوروثنا المُثقل بالدم والدموع، لتبدى لنا ذلك وبوضوح.
عَمِدَ مؤرخو «اليمن الأسفل» مثلاً على وصم «الأيوبيين» - القادمين من مصر - ومن بعدهم «الرسوليين، والعثمانيين» بأحسن الصفات، فهم المنقذون وحماة الأرض، والعرض، والدين، وبصورة مُبالغ فيها أحياناً، كما فعل المؤرخ الموزعي في كتابه «الإحسان في دخول اليمن في ظل عدالة آل عثمان».
ذات الشعور طال «المصريين» الذين قدموا إلى اليمن في ستينيات القرن المنصرم، وناصروا الثورة السبتمبرية في مهدها، وكانوا أساس صمودها، و«السعوديين» الذين قدموا مؤخراً لإنقاذ اليمن من الوصايـة الفـارسيـة حدَّ زعمهم، مع اختلاف بسيـط في الصيـاغة والتشبيـه، ولسان حال هؤلاء قديمهم والجديد، يلخصه قول الشاعر عبدالله البردوني:
وبرغمي يصبح الغازي أخي
بعدما أضحى أخي أعدى الأعادي
وفي المقـابـل كانت نظرة مؤرخي «اليمن الأعلى» عكس ذلك تماماً، فهؤلاء الأجانب كـُفـار بغاة، واليمن كانت وما زالت مَقبـرة لكـل غازٍ ومُحتل، فيما تُهَم العَمَالة لإخوانهم في الأرض جاهزة ومُفصلة لتتنـاسب وحجم الصـراع الدائر، والأهم من ذلك تحفيز القبائل المـُـواليـة على رصِّ الصفوف، والإستعداد لقتل كـل غازٍ وعميل، أما إيران فهي حد وصفهم دولة ذات مشروع مناهض للمستكبرين، تناصر المظلومين على الأرض، وما داموا كذلك على مرَّ التاريخ، فلا ضِـيـر هنا إن نـاصـرتـهم.
والمـُـفـارقة الصَادمـة أن الإمام «الهادي» يحيى بن الحسين، الذي صارت لذريته وذرية من قـدمـوا معه مِيـزة وحقوق أكثر من سكـان البلد الأصليين، لم يكن من وجهة نظرهم مُحتـلاً؛ بل صـاحب حـق، وله ولذريته السيادة والملك، وما عليهم إلا الطَـاعة والإنصيـاع، ويحضرني هنا التذكير بجواب المُفكر الفرنسي «فولتير» عندما سُئل: عن متى بدأ الكهنوت، فكان جوابه: «عندما التقى أكبر مُحتال بأكبر مُغفل»، فهل هناك أروع من هكذا توصيف لحال هؤلاء الكهنوتيين؟!.
تاريخنا موصولٌ غير مقطـوعٍ، وواقعنـا أكثـرُ غُموضاً من مـاضينا، ومُسقبلنـا تـائـهٌ بـلا مـلامح! عنـوان عَـريض لمعـانـاة لا تـنتـهي، مُمتـد كـامتـداد «مزقناهم كل مُمزق»، تلك اللعنة الأزلية التي طالت أبناء هذا البلد التعيس، ومن يقترب منه، وجعلتنا حديث كل لسان، وبنظرة فاحصة نجد أنَّ من تحالفوا على اليمن بالأمس القريب، صاروا أعداء، ومن اختلفوا بسببه صاروا أصدقاء، ولولا ظُلم ذوي القُربى، واستقواء القَـوي على الضعيف، و«الأعلى» على «الأسفل»، وإشراك السمـاء في صراعات الأرض، ما اختلف وتَـدخـل هـــؤلاء.
نحن إذاً، وعلى مـدى التاريخ أعـداء أنفسنـا، ووطننـا، وديننـا، وحيـن صـاغ شـاعر اليمن الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان «الفضـول» النشيد الوطني الذي يحفظه أغلب اليمنيين، كان يـُدرك ذلك جيداً، وما قـوله: «وسيبقى نبض قلبي يمنيا» إلا دعـوة إلى الحب والتـآخي والوحدة، كقـلب رجـل واحـد، تتجسـد فيه روح الوطنيـة والإنتماء، أما قـوله: «لن ترى الدنيـا على أرضي وصيـا» ففيه تمـرد على الماضي والحاضر، واستشراف للمُستقبـل، ودعـوة إلى عـَـدم الاختلاف، واستجـلاب المـُنـقـذين والأوصيـاء مَـرة أخـرى.