أنين المدينة المنكوبة (3)
الاربعاء, 03 أبريل, 2019 - 05:31 مساءً
كنت في أحد الأسواق الشعبية المكتظة بالمارة والمتسوقين والتجار، وحتى أولئك الأطفال الذين يحملون الميزان، بينما ميزان العدالة حاد عن طريقه.
انتابني شعور القهر والغضب والصمت والوجع، في نفس اللحظة عندما وقفت لجواري فتاة في ريعان الزهور، التفت بفزع، بادرتني بالقول: تشتي أصابع زينب؟ "نوع من الحلويات".
لم أجبها.. كنت مشغولة بتفحص لونها وهيئتها، ما الذي أصابها حتى تخرج السوق في هجير الشمس الحارقة؟!.
أراها هناك تتفتل في دارها، وتتربع عرش مملكتها، عيناي تأبى أن تراها تزاحم المارة بالأسواق ليبتاعوا منها الحلوى، ويلمزونها بنظرات الاستهانة والاستهزاء والضحكات الساخرة.
قطعت صمتي المحزون بقولها:
"ياأختى اشتري منى حلوى"، أجبتها: "أنتِ ليش تبيعي الحلوى؟ كان ممكن أن يخرج للعمل زوجك، أو أخوك أو أبوك"، بتنهيدة تزعزع الجبال الراسيات، أجابتني "أنا البنت الكبيرة في أسرتي، أبي مريض ومقعد، وقطعوا راتبه، وإخوتي صغار، وأمي اضطرت للعمل في البيوت من أجل أن نأكل عيش، وأنا قررت أصنع الحلوى وأبيعها".
قلت لها: "لكن أنتِ شابة صغيرة، قد تتعرضين للمضايقات في الأسواق" ، أجابتني عيناها الذابلتين بنظرة طويلة الصمت، قرأت منها إجابة لا تحتملها مسامعي ولا تستوعبها عيناي التي حاولتا أن تشاطرها الألم.
عاودت تحدثني :كيف نعيش؟ لا راتب ولا عمل ولا دراسة، حتى إخوتي بعضهم ماعاد يروحوا المدرسة، إحنا ديست حياتنا ببيادات العسكر المنتشرة في المدينة، ودُفنا تحت تلك البنايات الفارهة، التي تبنى بين عشية وضحاها، أردوا أن نكون عبيداً لأنصار الدينار والدرهم".
بينما استغرقت الحديث معي، اقبلت قرينتها، "هيا - سهام- نلحق نبيع عشان العمال الآن بعد غداء بيشتروا مننا هيا اسرعي"، بينما تتجاذب الفتاتان الحديث عن ظروف السوق، وكيف ممكن يحصلن على المال، انشغلت أنا اقرأ من ثيابهن المهترئة، ولونهن الجميل، قصة حياة لفتاة تم العبث بزهورها في مقتبل العمر ودفنت أحلامها في مهدها.
لم تكترث الفتاتين لبهارج الدنيا والنظر لقرنائهن اللاتي يذهبن للجامعة أو المدرسة، فالبحث عن ما يسد رمق الجوع، أصبح شغلهن الشاغل، في ظل مليشيا انقلابية، عبثت بالوطن والأحلام والأمنيات جملة واحدة.
سرت في طريقي أجر أذيال حزني ،يمر بذاكرتي الفتيات التي أصبحن يملئن الشوارع ما بين شحاتات، وبائعات الفاين في الجولات، أبحرت في عالم الوجع الذي يفتك، بي وصلت أخر موقف للباص، وهو مكان لبيع القات، ولم يخرجني من الصمت المطبق هذا ،إلا صوت فتاة تنادي ببيع الماء والبيبسي في وسط سوق القات.
صوت صاعقة ،بل رصاصة قاتلة، يا الله يا الله، التفت إذا بفتاة دون عمر "السابعة عشر" ربيعا، تنادي لبيع الماء البارد ، تتقاذفها ضحكات الرجال، ومراوغتها على البيع بسعر أقل، اطلت النظر وتوقفت قليل موهمة من حولي أني انتظر الباص الأخر وأنا أنظر للفتاة.
صعدت الباص والفتاة تحاول البيع بسعر يعود عليها ولو حتى برأس المال، بينما السفهاء يستغلون ضعفها، وخروجها لسوق تحت ظرف الحرب والنهب.
غاب النظر عن تلك الفتاة ولم تغيب عن خاطري هي ومثيلاتها، يتسكعن الجولات يتهافتن على أبواب الهيلوكسات ،والسيارات الفارهة، إما للشحت أو بيع الفاين.
يتساءل الناظر لهذا الحال، من أخرج العذرى من خدرها، من كسر أقلامها، وعبث بكتبها، واغلق في وجهها باب مدرستها ،إنها مليشيات تسعى لسلخ النسيج الاجتماعي ليتسنى لها استعباد الناس وتطويعهم لها.
قدري أن أرى زهور المدينة تحترق تحت شموس الظهيرة، في صمت ممقوت ،لنخوة والشهامة ،وفقدان لمروءة اليمني المسحوق تحت سوط الانقلاب العابث.