أنين المدينة المنكوبة 5
السبت, 27 أبريل, 2019 - 03:55 مساءً
انقطع الغاز، والنفط والكهرباء، وكل ما له صلة بمقومات الحياة الطبيعية عن المدينة، وشلت الحركة منذ أربع سنوات وحتى الآن، باتت المدينة تارة كأرض المحشر، هلعاً من الجوع والحرب، وتارة كمقبرة غير أن لا ساقي لزهور ولا مستغفر للمقبور.
الناس بين شابع متهور ينهب الأخضر واليابس، ويرى الناس طوعاً لإمره، وهذا الصنف لهم سلالة جينية مختلفة حسب زعمهم، وكأن الجحيم لا تستطيع أن تبلع كروشهم المتدلية، ولا تغير لونهم، والصنف الثاني منطوي على ذاته كافي خيره شره، في ظل حرب سعرت نارها بلا هوادة، والصنف الثالث هم الفئة المسحوقة، تحت بيادات الفئة الأولى ورحمة الفئة الثانية.
مدينة تأن بلا قوت مثخنة بالجروح ، نساء أُلقيت على عاتقهن مسؤولية حياة الصغار في ظل غياب العائل، إما قتيل أو أسير أو مشرد أو من تلك الفئة عديمة المسؤولية، المهم أن ثُقلاً لا تحتمله جبال راسيات، تحمله امرأة ، كانت تظن أنها بعد الأربعين من عمرها ستحظى بدلال ممن جعلته سنداً لها وأنجبت منه رجالاً، كانت تعدهم من الأخيار.
امتلأت شوارع صنعاء بالأمهات المخذولات، يحتطبن الكراتين وعلب قنينات الماء "صحة الماء الفارغة" بل حتى وصل الأمر إلى جمع الملابس المرمية في براميل القمامة، من أجل أن تحرقها وقوداً لتنضج به خبزاً يسد رمق الجوع، هكذا تبزغ أشعة الشمس في الصباح الباكر، وتختفي النساء العفيفات إلى بيوتهن خشية أن يلمحهن معروف ويكشف عن حالهن المعيشي.
مفارقات الحرب جائره، الهيلوكسات التي لا يجرء أحد على قطع طريقها، بل ينحني من رضع العبودية لسائقها ذاك الذي من السلالة النتنه، ونساء على حافة الطرقات وفي الأزقة يبحثن عن ما يسد رمق الجوع، يسكن المدينة أشباح بلا أرواح ، تكسوهم الخباثة، وتشتم منهم رائحة الدم والموت.
عشرات النساء اللواتي تعمدت سؤالهن لماذا يحتطبن الكراتين وقنينات الماء الفارغة والملابس المرمية، فيجبن أن لا رواتب ولا معيل، لكن تلك المرأة التي تفوق الخمسين عاماً، وتحمل على رأسها كيس من الكراتين والقنينات ، عندما أوقفت الباص ورفض أن تصعد معه لأن الكيس الذي تحمل فيه أمل البقاء لها ولأطفالها سيزعج الركاب، ثم صعدت باصاً أخر لكنها لم تستطع الصعود من القهر والعجر معاً، مد أحدهم يده ،وساعدها على الصعود ،بل كان كريما أكثر وأعطاها أجرة الباص.
المرأة حدثتنا عن معاناتها وأن أبنائها تركوها وذهبوا مع السيد، وتركوا أولادهم وهجروا نسائهم خدمة لسيدهم، بل يهددونها بالقتل لو أنها ذكرت المشؤم صاحب الكهف بسوء، وجدت نفسها مضطرة لتربية أولاد أولادها ، فالأم تحب ولد الولد أكثر، وتحمل له عاطفة مضاعفة عن تلك التي تحملها لأبيه.
بكلمات الثناء غادرت المرأة الباص وهي تدعوا لذلك الرجل الكريم الذي واساها بكلام طيب، وفي المقابل أنهالت بدعوة المقهور والمظلوم على من تسبب بحرمانها من الحياة الكريمة، وشرد أولادها في الشعاب والجبال بعد أن استمالهم بالمال.
انها الحرب يا أماه وحدك الجندي المجهول الذي لا يُلتفت له، ولا تُسطر بطولته، ولا يُحكى عنه كما يُحكى عن الأبطال الذي وهبوا أرواحهم دفاعاً عن وطن ، أنت يا أماه أفتديت وطنك و دنوتي بخاصرتك لتكون الطعنة فيك ولا تمس كرامة أولادك.
تنزفين جرحاً عميق لا يُلتفت له لا ولد ولا زوج ولا ذي صلة رحم، لو كان كل هؤلاء، يمتلكون العاطفة التي تمتلكين لما تركوك في الشوارع وعرضة لسخرية.
انين لا يُسمع ،وجُرح لا يُداوى، تلك هي يوميات المرأة اليمنية، في مدينة يعبث فيها أصحاب الكروش المتدلية والفلل الفارهة، هكذا هي الحرب وهكذا هو سطو المليشيات، وهذه هي صنعاء، حروف فيض من غيض.