×
آخر الأخبار
8 سنوات من الحصار.. أهالي جمعية الفرقة السكنية في صنعاء يشكون ظلم وفساد الحوثيين  الوحدة التنفيذية في مأرب: تصريحات الوكيل "محمود صالح" عارية عن الصحة ومغايرة للواقع الميداني الخارجية الأمريكية تناقش مع "مسقط" قضية موظفي سفارتها في صنعاء المحتجزين لدى الحوثيين  رئيس الوزراء يوجه بإلغاء أي إجراءات تستهدف نشاط نقابة الصحفيين اليمنيين "الغذاء العالمي" يعلن عن حاجته لـ1.5 مليار دولار لتمويل أنشطته في اليمن  منظمات حقوقية تدعو إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية الأطفال في اليمن مراكز المعاقين في صنعاء تؤكد الاستمرار في الاضراب الشامل صحة غزة: مستشفيات القطاع ستتوقف عن العمل خلال 48 ساعة  بن دغر: لقاء الإصلاح واللواء الزبيدي خطوة إيجابية لمصالحة وطنية شاملة  وقفات حاشدة في مأرب وتعز تندد باستمرار جرائم الاحتلال بحق سكان غزة
بلال الطيب

صحفي يمني

الزبيري.. الإنذار المُبكر

السبت, 07 مارس, 2020 - 08:04 مساءً

نشأت حركة الأحرار اليمنيين أول ما نشأت وهي تزخر بالخلافات الفكرية؛ نتيجة لعوامل عديدة، لعل أبرزها انحصار انفعالات المُستنيرين في مدينة تعز بالمظالم التي كانت تنصب على الرعوي المسكين، فيما لم تتجاوز انفعالات أقرانهم في مدينة صنعاء التضايق من الكبت الفكري القائم؛ غير أنَّ جلال المُحاولة الأولى، ورهبة الحكم القاسي، فرض على الجميع تقبل بعضهم بعضًا، والانخراط في كيان موحد، كان القاضي محمد محمود الزبيري، والأستاذ أحمد محمد النعمان، دعامته الرئيسية.

كانا المناضلان أساس الوحدة الوطنية، عملا على كسر كافة الحواجز المُعيقة، وحاولا إصلاح النظام من الداخل، وخلقا من مدينة تعز قضية جامعة، وقدما وباقي الأحرار للإمام يحيى حميد الدين مطالبهم الإصلاحية، كان رفع الظلم عن الرعية المساكين البند الأول فيها، ليتعمق الأستاذ النعمان في ذات الأوجاع والمطالب في رسالة شهيرة أسماها «الأنـَّة الأولـى»، موجهة لـ «ولي العهد» سيف الإسلام أحمد «1937م»، وحين ذهب القاضي الزبيري بعد ثلاثة أعوام لتقديمها للإمام يحيى مع رسائل أخرى مُتصلة، ضمن برنامج «جمعية الأمر بالمعروف»؛ كان مصيره السجن في جبال «الأهنوم» المُوحشة.

تجربة خصبة
وعن تلك البداية قال القاضي الزبيري: «ولقد ولدت القضية الوطنية هناك في تعز، في صورة قصائد كنا نلقيها على الجماهير في محافل الأعياد الضخمة لولي العهد، لقد كان عملنا يُعتبر تقدمية، ونهضة وجرأة على تطور الأساليب القديمة في الأدب والشعر، وجرأة على الظهور والطموح والتبشير بوجود عصر حديث لم يكن للناس به علم في بلدنا».

واضاف: «لقد كانت تجربة خصبة عميقة كسبنا منها الأساس الأول للثورة، وهو اليقين باستحالة تغيير الإمام يحيى عن غير طريق القوة، ولم يكن هذا اليقين الثوري ليحصل إلا بعد المرور على كل هذه التجارب، وأهمها في رأيي استعطاف الشعر بكل ما فيه من تأثير عاطفي شديد»، وأردف: «إن محاولة إقناع الإمام يحيى بواسطة الفكر الديني، ثم المدائح الشعرية التي قدمت إليه في هذه المرحلة التجريبية كلها تعتبر وثائق تاريخية، تدل على المحاولات الجادة لإقناع الإمام بالحكمة، وبأرق الوسائل الودية كي يسمح بالتطور الإصلاحي المنشود، ولا يستطيع أحد في المُستقبل القريب أو البعيد أن يزعم بأنَّ الإمام يحيى عارض الإصلاح خوفًا على الدين، فإن التجربة قدمت نفسها كدين..»

لم يستسلم الثائران - رغم ذلك - للإحباط واليأس؛ بل ظلا في ملازمة «ولي العهد» أحمد يحيى حميد الدين، علَّ وعسى يستجيب لمطالبهم الإصلاحية، ولكن دون جدوى، وحين رآهم المناضل جازم الحروي قال لهم: «بدلًا من أنْ تظلوا تُبعثروا أدبكم وأفكاركم في تقديس الحكام، اخرجوا نحو الشعب»، تعذروا له بالمادة وضيق الحال، فتكفل بدعمهم، وبالفعل نجح في تهريبهم إلى عدن «4 يونيو 1944م».

الأحرار الدستوريين
بدأت من عدن المُعارضة الفعلية لحكم الأئمة بقيام «حزب الأحرار الدستوريين»، وقد انتخب الأستاذ النعمان رئيسًا، والقاضي الزبيري أمينًا عامًا، ليبادر الأول بكتابة أول رسالة استعطافية إلى الإمام، وقعها قادة الحزب، ناشد فيها الإمام بـ «إعلان الهدنة بين العسكري والرعوي»، وما هي إلا عشرة أشهر حتى حل ذلك الحزب بضغط من الإنجليز، ولسبب آخر تمثل بخلاف الأحرار أنفسهم.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، سمح الإنجليز في عدن بتأسيس «الجمعية اليمانية الكبرى»، ككيان يمني مُعارض لنظام الإمام يحيى «4 يناير 1946م»؛ وذلك بعد أن زال الخوف من تحالف الأخير مع الإيطاليين، ضمت الجمعية كوكبة من الأحرار الأوائل، كان إبراهيم بن الإمام يحيى أبرزهم، انظم الأخير إليها في أواخر الشهر التالي، وصار صوت الجمعية بذلك مسموعًا، وصارت أنظار أحرار العالم تتجه إليها.

دُعمت الجمعية بمطبعة حديثة مُستعملة، سميت بـ «مطبعة النهضة اليمانية»، بذل «تجار تعز» وعلى رأسهم المناضل جازم الحروي الأموال الطائلة في سبيل شرائها، وتشغيلها، وصدرت عنها صحيفة «صوت اليمن» بصورة مُنتظمة، وقد طبع أول أعددها يوم «31 أكتوبر 1946م»، في الوقت الذي كانت صحيفة «الإيمان» المتوكلية شبه متوقفة عن الصدور.

وكتب القاضي الزبيري في إحدى أعدادها مقالة تحت عنوان «ها هي صوت اليمن»، نقتطف منه: «وبعد فإن الشعب اليمني يعتبر أرومة العرب الأولى، ويعد من أعرق الشعوب في الحضارة والسؤدد، أيام كانت الأقطار مجاهل غافلة، والأمم أطفالًا سادرة، أصبح اليوم في عصر الثقافة والعلم والعمران طلمسًا مُشكلًا، ولغزًا غامضًا».

ووصف الزبيري حكم الأئمة بأنَّه حكمٌ مُطلق من كل القيود، حتى من قيود الاعتبارات الدكتاتورية نفسها، وأنَّ الإمام يعتقد أنَّ سلطته من السماء، وأنَّ اللهَ هو الذي اختاره ليحكم هذا الشعب، وألهمه أن يعمل، وأن لا يعمل، وأنَّ الله هو الذي جعـل من تصرفاته شرائع تنسخ الشرائع، ودينًا ينسخ الأديان.

وأضاف: «حسب الواحد منهم - أي من الأئمة - أن يتربع على العرش، ثم يقول للناس أنَّ الله هو الذي ولاه، أنَّ الله هو الذي أمر الناس أن يطيعوه، وأن يخدموه، وأن يقدسوه، وأن يموتوا في سبيل نصرته، وأنَّ حكمه ليس مُستمدًا من الشعب، ولا من فضل الشعب؛ بل هو منحة من السماء، إنه ظل الله، ونائب الله وخليفته»، ولا ضير أن يتحول أبناءُ الشعب إلى مُجرمين، ولصوص، وقطاع طرق، تباح دماؤهم، وأموالهم، وأعراضهم بمجرد أن يغضب الإمام أو يغضبوا عليه.

جعل الزبيري من الأدب والشعر وسيلة مُثلى لإيصال أفكاره، وقال عن ذلك: «كنت أحس إحساسًا أسطوريًا بأنني قادر بالأدب وحده على أن أقوض ألف عام من الفساد والظلم والطغيان»، وخاطب الإمام يحيى في إحدى قصائده قائلًا:
أيها الظالم الذي يتباهى ... أنَّه ابن الوحي أو سبطُ طه
تشهد الناس يركعون حواليك ... دهورًا ويخفضون الجباها
تتوخى بأن تكون شريك الله ... فيهم أو أن تكون الله
وإذا جئت للمصلى رأيناك ... نِفاقًا موحدًا أواها
إن تكن أنت مؤمنًا بإله ... فلماذا تكون أنت الإله

أما سيف الحق إبراهيم فقد خاطب أباه - يُعتقد أن المقال كتبه الزبيري - في إحدى أعداد تلك الصحيفة قائلًا: «عليك أن تقي أسرتك والشعب من خطر الانفجار الذي لا يؤخره غير انتظار فترة قصيرة من الزمن، تظل فيها منجحرًا في قمقم التاريخ الهاشمي المُظلم».

وبالفعل حصل الانفجار، وحسم الثوار أمرهم بثورة دستورية «18فبراير 1948م»، إلا أنَّ «ولي العهد» أحمد نجح في إخمادها، بدعم وتأييد كبيرين من قبل الحكام العرب، الأمر الذي جعل الأستاذ أسعد الأسعد - مندوب لبنان في الجامعة العربية - يُعلق حينها ساخرًا: «لو اتحد ملوك العرب في قضية فلسطين كما اتفقوا ضد الأحرار في اليمن؛ ما كان في فلسطين حكومة يهودية!!».

سنوات الشتات
بدأ الإمام أحمد حُكمه بسلسلة من المجازر البشرية الرهيبة، وكانت النتيجة آلافٍ من القتلى، وأتم جرائمه بأنْ ساق «37» من الأحرار المُخلصين إلى ساحات الإعدام، ودس السم لشقيقه إبراهيم، وزج بعشرات الأحرار في سجن «نافع - حجة»، كان الأستاذ النعمان أحدهم، أما القاضي الزبيري فقد طرده الإنجليز من عدن، وآثر الاستقرار في الباكستان، بعد رفضت عدد من الدول العربية استقباله.

وتحدث الزبيري عن أوجاع غُربته تلك قائلًا: «وما كادت تقوم حركة عام 67هـ - 48م وتنتكس، حتى اُصبت بإغماءة، قطعت الصلة بيني وبين وطني وتاريخي، وخرجت إلى أهل الأرض، فكنت أجزع حين لا أرى وطني في مسرح الزحف التاريخي للبشر، ولا أرى الناس يعرفونه، ولا يشهدون له وجودًا إلا اسمه الأسطوري الذي تناقلته كتبهم، وأقاصيص أسلافهم؛ ومن ثَمَّ أنكروا أن له وجودًا حقيقيًا؛ ولذلك كابدت المرارة الرهيبة، ودخلت في نقاش مع الناس كأنني مجنون بين عقلاء، أو عاقل بين المجانين».

مع مُنتصف العام «1955م»، احتضنت القاهرة القاضي الزبيري، ثم الأستاذ النعمان، ليتحول «الاتحاد اليمني» - كيان الأحرار الثالث، وبعد سبع سنوات من تأسيسه - من إطار جامد إلى جهاز عامل صحفيًا، وإذاعيًا، وسياسيًا، وطلابيًا، وبعد ستة أيام فقط من وصول الأستاذ النعمان عاودت صحيفة «صوت اليمن» الصدور، وفتحت إذاعة «صوت العرب» أبوابها للزعيمين الـمُلهمين، وبدأت الدعوات لقيام نظام جمهوري عادل، وطي صفحة حكم الإمامة وإلى الأبد.

نشط القاضي الزبيري حينها في فضح وتعرية نظام الإمامي الكهنوتي، وأصدر عدد من الكتب والكتيبات، وكان كتابه «الإمامة وخطرها على وحدة اليمن» أشهرها على الإطلاق، خلص فيه أنَّ الإمامة مُشكلة اليمن الكبرى، وعرَّفها: بأنَّها فكرة مذهبيـة طائفية يعتنقها من القديم شطر من الشعب، وهم «الزّيدِيّة» - أي «الهـادوية» - سكان «اليمن الأعلى»، وأنَّ باقي اليمنيين لا يـدينـون بها، ولا يرون لها حقـًا في السيطرة عليهم، مُشيـرًا إلى أنَّ التَحكم الإمامي خلق شعـورًا مريرًا لدى الغالبية، وأبقى الانقسـام ظلًا قاتمًا رهيبـًا يخيم على البـلاد.

وتنبأ في ذات الكتاب بأنَّ معارك المُستقبل وأحداثه ستدور حول هذه الكارثة المسماة الإمامة، وأنَّ مشاكل كثيرة ستنبعث منها، وستستغلها القـوى العربية والدولية شئنا ذلك أم أبينا، وأنَّ اليمن ستتعرض بسببها لأخطـارٍ لا نهاية لها.
وللخروج من هذه المُعضلة، وهذه اللعنة الأزلية قال الزبيرى - ناصحًا شعبه المسكين - : «فإذا أراد اليمنيون أنْ يجنبوا بلادهم كل هذه الاحتمالاتِ الرهيبة، ويحتفظوا باستقلاليتها، وسيادتها، ووحدتها، وبقاء اسمها على الخريطة، فليشطبُوا على هذه الخرافة، التي تُعطي لنفسها حقًا مُقدسًا في الحكم لفئةٍ معينة من الناس، وليُتيحوا لكافة فئات الشعب فُرصًا مُتساوية في الحكم، ذلك هو الحق الواضح المستقيم، لا نذكره تعصباً لفريق من اليمنيين دون فريق، وإنَّما نذكره حرصًا على وحدة الشعب بأسره، وعلى حريته واستقلاله».

كما دافع الزبيري عن أقرانه من الثوار الأوائل قائلًا: «وإنَّ من الخطأ الكبير، والمنطق المقلوب، أن يُظن بالذين يُنادون بالحكم الشعبي أنَّهم يُثيرون عصبية عنصرية - فالواقع أنَّهم على العكس من ذلك، يُنادون بوحدة الشعب، الوحدة الصحيحة السليمة التي تستند إلى ضمانات بقائها في المـُستقبل، دون عواصف».

وأضاف: «إنَّ الذين يؤمنون بالعنصرية هم الذين يدافعون عن الفوارق والامتيازات التي تفصل بينهم وبين سائر فئات الشعب وطبقاته، ويصرون على أن يتميزوا على الشعب، وينفردوا عنه بحقوق سياسية واجتماعية كأنَّهم لا يقبلون أن يكونوا في عداد أبنائه، ولا في مستوى إنساني كمستوى إنسانيته»، مُعتبرًا تلك النزعة العُنصرية أخطر شيء على «الهاشميين» أنفسهم، وعلى مُستقبلهم.

أطهر مخلوق
في دراسة له قال الشاعر عبدالعزيز المقالح عن القاضي الزبيري: «كان شاعرًا يستوعب التحول الموضوعي للواقع، ويبشر بالثورة الكاملة، وذلك على الرغم من نشأته الصوفية الدينية، وعلى الرغم كذلك من محاولاته الدائبة على أن لا يتجاوز المألوف - مسايرة منه لعقلية الغالبية العظمى من أبناء شعبه، حتى ينفذ إلى أعماقهم، ويكشف مواطن الداء فيها قبل أن ينفروا من دعوته لتحرر الوطن من الطغيان، وحتى لا يستجيبوا لدعاة التخلف الذين يرون في كل اتجاه نحو العدل الاجتماعي خروجًا عن الدين، ومروقًا على مبادئه الأساسية».

عاد القاضي الزبيري بعد نجاح الثورة السبتمبرية إلى الوطن، مُفعلًا الروح اليمنية على مبادئ الإسلام، مُساهمًا في تقريب وجهات نظر القوى المُتصارعة، كمرجعية صادقة، وأب للجميع، وقد كان كما قال عنه رفيق دربه الأستاذ النُعمان: «أطهر مخلوق عرفته الأرض»، لديه روح نقية، وقلب كبير، قال أنه سيهبه لوطنه، فكان له ما أراد «1 إبريل 1965م».
ورحم الله الشهيد الزبيري الباحث عن مجد أجداده، والمُتسائل:
أين السعيدة أن فيها جنَّةٌ ... خضراء نماها الدهر وهو غلام؟
أين القصور الشم أين بناتها ... الأقيال، أين ملوكها الأعلام؟
أين البحار أين السدود، يرى لها ... بين الشواهق زخرة وزحام؟
والناصح الصادق لبني قومه:
والحق يبدأ في آهات مكتئبٍ ... وينتهي بزئير ملؤه النقم
جودوا بأنفسكم للحق واتحدوا ... في حزبه وثقوا بالله واعتصموا
 
 
 
 


اقرأ ايضاً 

كاريكاتير

بلال الطيب