أضغاث خواطر
الثلاثاء, 30 يناير, 2018 - 04:27 مساءً
(1) وجه القمر
----------------------
أنا لا أفهم في ثلاث: لا السياسة ولا العسكرة ولا اللغة الصينية.. ولكن تفسير بعض الأمور لا يحتاج إلى كبير مقدرة أو شديد جهد.. بَيْدَ أن ثمة حالات في مسيس حاجات إلى استبصار داخلي بالذات.
قال الأجداد الكرام العظام يوماً: إذا نظر الجائع إلى البدر، رآه قرص رغيف.. وإذا نظر إليه العاشق، وجده وجه الحبيبة.
ولكن...
ماذا إذا رآه اللص؟
وماذا إذا نظر إليه الحاكم الغاشم؟
وإذا شافه المريض، كيف يكون في عينيه؟
الأخير سيراه، دون شك، حبة بندول أو قرص اسبرين.
واللص سيراه، ربما، ديناراً من فضة.
أما الديكتاتور فلا أدري بالضبط ما الذي سيراه في وجه القمر؟
هل ترى سيراه قبراً كبيراً يضم قدراً هائلاً من الرعايا الرعاع؟
أم أنه سيرى راية بيضاء ترفعها أمامه المعارضة بعد مشوار طويل من النضال الشاق؟
أو ربما رأى بركة حليب ينزل إليها الأطفال وكلهم توق إلى الاحتساء فيكون مصيرهم الغرق في قاع بلا قرار!
جميعهم: الجائع، العاشق، المريض، اللص والديكتاتور نظروا إلى شيء واحد محدد الملامح.. لكنهم جميعاً لم يروه على صورته، إنما على صورتهم.
(2) متحف الشمع
----------------------
من ثورة 14 يوليو 1789.. إلى ثورة 14 أكتوبر 1963.. مروراً بثورات 22 يناير 1905.. و 2 يونيو 1916.. و 23 أكتوبر 1917.. و 23 يوليو 1952.. و 26 سبتمبر 1962..
تراكمَ الوعي الثوري في تلافيف الذاكرة الانسانية، وتجذَّر الايمان بحتمية التغيير بالوسائل الثورية.. غير أن الثورات تآكلت من داخلها بعوامل التعرية السياسية والآيديولوجية، وبفعل تناقض المصالح حيناً وتحالف الأطماع أحياناً، بين الثوار ووارثي الثورات.
وبانتقال مفاهيم ودلالات الثورة من الوعي والوجدان إلى الطاولات والحكومات.. أو بانتقالها من أحلام وتضحيات المناضلين والثوار، إلى أحضان وجيوب الساسة والتجار.. راحت الثورات تنسلخ تدريجياً من واقع المجتمع ووقائع الحياة اليومية للناس، والبسطاء منهم بالذات، كما تنسلخ القشرة البالية عن الأفعى التي ظهرت مجدداً بقشرة جديدة براقة لكنها زائفة، وبأنياب فتاكة مضغت الحلم ومزقت الارادة، ثم لفظتهما على قارعة التاريخ!
لم يعد ثمة جيل اليوم يحرّر الثورة من أسار متحف الشمع.
(3) ذيول لا تُرى
----------------------
الخراب الذي تُخلّفه الحروب في العمران هو أهون مخلفات هذه الحروب.
الأفدح هو الخراب الذي تُخلّفه في الانسان.
اثر كل حرب، تظهر حالات مرضيَّة -نفسية وعصبية- في أوساط الناس الذين عاشوا تلك الحروب وعانوا منها بصورة مباشرة. بعضها يستعصي علاجه على ذوي الاختصاص، بل بعضها يستعصي تشخيصه في الأساس!
حتى الاصابات الجسدية جراء القذائف -لاسيما تلك التي ينتج عنها عجز كُلّي أو جزئي- تؤدي إلى شروخ نفسية وانكسارات وجدانية، يغدو بعضها فادحاً جداً.
غداً، سنشهد عديداً من هذه الحالات، بل قد شهدناها مؤخراً، أكان في أوساط الأشخاص الذين شاركوا في الاقتتال على نحو مباشر بالسلاح، أو في أوساط الأهالي الذين أستحالت حياتهم المدنية إلى جحيم جراء الحرب.
قال فيكتور هوجو يوماً: "إن للأحداث الكبرى ذيولاً لا تُرى".
هذه الحالات واحدة من أخطر وأطول وأنكأ تلك الذيول التي عناها هوجو.. وهي ستستمر في المكان والزمان، حتى بعد أن تصمت المدافع، فيستقر المجتمع ويزدهر العمران.
*نقلاً عن يمن مونيتور