مهابة رحيل في باكورة سبتمبر
الخميس, 03 سبتمبر, 2020 - 04:31 مساءً
سقط على طريقة الأبطال الكبار، ما الذي كان يبحث عنه هذا الشيخ الجليل في ميدان القتال، عمّ يفتش في صحراء مأرب وكلها قيظ ونار، لماذا فضَّل الحياة في خطوط النار بدلاً من أن يقضي سنواته الأخيرة في منزله الوثير..؟ هل كان يبحث عن مكسب، عن راتب ورتبة، ما قيمة المكاسب كلها حين تغدو حياتك مهددة بالموت في أي لحظة..؟
لا بد أن ثمة قيمة أعلى كان يحرسها ببندقيته في أرض سبأ، كان يدافع عن حق اليمني في العيش ملكًا على أرضه، كان يطلق النار؛ كي لا تشعر أحفاده من بعده بالعار حين تكبر وتجد نفسها رهينة لحكم السلالة..كان يحرس القيم الكبرى للنضال: الحرية، الجمهورية، الكرامة، وإرادة الناس..وسقط كي تظل القيمة حيّة والأرض موفورة الشرف والإنسان كامل الكرامة.
رحل الشيخ ربيش، في باكورة سبتمبر، ولا أظنه توقيتًا حدث بالصدفة، لقد إختاره الموت في توقيت يهب رحيله معنى وقيمة، توقيت يضعه في موكب أبطال الجمهورية الكبار، حيث أدى ركعته الأخيرة في شهر ميلادها الكبير ورحل ملفوفًا بمجد الأبطال العظام.
لا أدري لماذا شعرت بمهابة رحيله بشكل مختلف، على الرغم من تزاحم أحداث الموت في حياتنا وبما أفقد الحدث كثير من رهبته، غير أن رحيل هذا الرجل ظل محتفظًا بجلالته وأعاد لفكرة الموت رهبتها في النفوس، وإنها لرهبة تعكس سر حياة الرجل، وتجيب عليها مسيرته، بطولة الموقف، وشكل النهاية التي اختارها لنفسه.
ليس الموت دائمًا نقيض الحياة، أحيانًا كثيرة يكون الموت دليلًا ساطعًا على قدسية الحياة، يحدث ذلك حين تتعرض فكرة الحياة ذاتها لمهدد يُفقدها قيمتها، في حالة كهذه يكون الموت انتصارًا لفكرة الحياة. تمامًا كموت هذا الشيخ الكبير.
هذا هو الموت الشاهد على قيمة الحياة، إنه ليس عبث بالأرواح في معركة بلا غاية؛ بل سخاء يعلي من قيمة العيش ويرفض شروطها المذلة، إعلان صريح أن الحياة_بكل قداستها_فاقدة للقيمة حين يُسلب منها شرط الحرية، هكذا يغدو الموت دليلاً صاخبًا على قداسة الحياة، الموت على طريقة هذا الشيخ المهيب.
لم يكن الشيخ ربيش قاتلًا ذهب ليذل الناس في ديارهم، لم يكن غازيًّا للمدن أو متسلطًا على رقاب الأخرين، كان يقف في حواف مأرب ويدافع عن حق المدينة في أن يحكمها أبناءها وحق أبناءها في الدفاع عن جمهوريتهم المستلبة ودولتهم المخطوفة، كان حارسًا لشرف بلدته، وسقط؛ كي تظل رؤوس قومه شامخة من بعده، ويواصل رفاقه درب النضال حتى يُعاد للحياة قيمتها وتعود للناس جمهوريتهم.
كان يمكن للرجل وهو شيخ كبير في قبيلته وقومه أن يكتفي بالجلوس في صومعته ويترك القتال لرعاياه، بمستطاعه أن يفعل ذلك ويحفظ حياته بعذر أو دونما حاجة لعذر، فكثيرون أمثاله استخدموا حيلة كهذه، لكنه أراد أن يثبت إيمانة بقيمة النضال فكرة وسلوك، وانتهى به المطاف أن يقدم روحه تأكيداً لذلك.
إن مأرب هي سور الجمهورية، وإن سورًا يحرسه الشيوخ قبل الشباب لهو سور لا يعرف السقوط.
*هذا ليس تمجيدًا عاطفيًّا للموت، وتقديس لثقافة الفناء أو استرخاص لقيمة الحياة، فلا أحد يبحث عن الموت لأجل الموت، ولا أحد يفضل هذه النهايات القاسية، لكننا في لحظة لا يمكننا فيها الدفاع عن حقنا بالعيش وجدارتنا بالحياة دونما استعداد للتضحيّة بفكرة الحياة ذاتها، ومن أجل هذا تُعد الشعوب جيوش لها، وتنفق مليارات الريالات لتسليحها، حيث البندقية والدم هي الملاذ الأخير، لمنع القتلة من تدمير الحياة أو السطوة عليها بدون وجه حق.
*من صفحة الكاتب على فيس بوك