القراءة وحدها لا تكفي!
الثلاثاء, 03 يوليو, 2018 - 10:39 مساءً
الخالة فاطمة، بيتها على طريق مدرستنا الابتدائية، نلتقي بها كل يوم؛ لتسقينا الماء البارد.. كانت تعمل قِناع من السدر، أو الكركم "اليوم صفراء وباكر خضراء" - كما كنا نقول ونحن أطفال -، وهي ذكية، صاحبة عيون فاحصة، وابتسامة مرحة، تحفظ قصص كثيرة، وتعرف أشياء أكثر مما تعرفه الأستاذة، ومديرة المدرسة، وإن اختلفت "رفقتنا" في أمر ما، هي أفضل من يحل المشكلات.
هذه الخالة لم تدرس، ولكن لها أرض تعمل فيها وسط حقول الزراعة، التي نمر عليها كل يوم في الذهاب والإياب.. تعيش تفاصيل مواسم العام المتعاقبة، في أجواء ساحرة، كل فصل يكون المناخ مختلف مرات ومرات، فأحيانا تكون الأرض خضراء، وأخرى يابسة، أو بدون زرع، بعد الحصاد، وتمر فوق الأوراق المتساقطة من الأشجار وبقايا "الحشيش" الأصفر الذي له رونقه الخاص، وترى أشكال الحشرات الغريبة وألوانها الجذابة...
قد تكون هذه البيئة أحد العوامل التي صقلت شخصية الخالة فاطمة، وجعلتها تحضي، بتلك المكانة لدينا، وليس مجرد كوب الماء البارد الذي نحتسيه، ونحن في طريقنا من وإلى المدرسة فحسب.
ولذا فإن أصدق ما قرأت مقولة: "من كان شيخه كتابه فخطأه أكثر من صوابه".
فأن نجعل قراءة كتاب في مجال علمي معين، أو تجربة ما، أو مطالعة ما يُروى عن شعب من الشعوب، أو كلام قاله شخص عن نفسه في مذكرات أو رسائل، هي السبيل الوحيد لنتعلم، أو نكتسب مهارة، أو نعرف ثقافة الناس، أو نتفحص معادنهم، ونكتفي بالقراءة فقط، فهذا يعني أنّا شكلنا وعي مبتور، وقد يكون بلا مضمون نافع، أو محتوى له قيمة، وينفع في حياة الناس.
فقد أثبتت التجربة، أن الوعي والتّمكُن من حِرفة، أو الانسجام مع الشعوب، والامتزاج بهم، والقدرة على التكيُّف مع الأفراد، والعيش معهم، لا تكون سليمة؛ إلا بعد الاحتكاك المباشر، والاطلاع على الحقائق في أرض الواقع، والمجالسة والتجريب، وتبادل أطراف الكلام، والمعاملات اليومية.
بالفعل القراءة أمر مهم، وتمثل ركيزة في بناء أي حضارة؛ إلا أن القراءة التي لا تجرّ صاحبها ليعيش الواقع، ويجرب ويتأكد من جدوى المعلومات التي اطلع عليها، ويستثمرها في محيطه القريب، أو مستقبله القادم، قد تكون ضرب من الجنون، أو العزلة أو ضياع الوقت بلا فائدة، الأمر الأغرب في وقتنا الحاضر أن نجد من يمارسها كسلوك مجرد، من أجل المظهر، كي لا يقال عنه "لا يفهم"، ويردد ما قرأه كالبغبغاء، لا هو الذي فهم مغزى ما قرأ، ولا ذاك الذي وعى ما يردد، كما أراد له صاحب الكتاب.
وكثيرة هي الكتب التي نقرأها، فيها معلومات مُجملة أو ناقصة، أو فيها شروح لأحداث لا تتناسب أن تتكرر معنا، كما حدث لكُتاب تلك الكتب، وقد نقرأ حول ثقافة بلد من وجهة نظر كاتب له ظروفه الخاصة، وعاش جو فُرض عليه إصدار أحكام قد تكون مجتزئة، وقد يكتب أحدهم رسالة أو يتحدث عن نفسه عكس حقيقته تماماً، وهذا ما قد يشكل تصورات غير صحيحة، منها وهمية أو مهترئة حول الواقع، وبالتالي نقع في إخفاقات لا تُحمد عقباها.
ولذا؛ فالابتعاد عن معايشة الواقع وبيئته وناسه بمختلف الحيثيات والتفاصيل، والاعتماد على القراءة فقط لإتقان علم معين، أو لاكتساب حِرفة، أو لاكتشاف حقائق عن أحداث أو شعوب، أو لإلقاء أحكام صحيحة، عن حدث أو شخص، تماماً مثل الذي يقف على رجل واحدة، أو يقود سيارة بإطارات ناقصة، أو يُبحر في قارب بلا شراع ومجاديف.